( يستاهل البرد من ضيّع دفاه ) .. لمحات مما قيل في البرد والشتاء ( 1 / 2 )
حضرموت حُرّة/ بقلم: أحمد عمر باحمادي
● كرم الشتاء :
عن كرم العرب في الشتاء يقول الشاعر طرفة بن العبد : ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ×× لا ترى الآدب منا ينتقر )، والآدب : هو صاحب المأدبة، والانتقار : هي دعوة البعض وترك البعض, فيقول : نحن في المشّتات، وفي شدة البرد، ووفرة الجوع، ندعو كل من لقينا كرماً منا.
● ليالي الشتاء الطويلة :
يفضل الناس النوم والدفء في ليالي الشتاء الطويلة، أما مسلك الصالحين قبلنا فكان غير ذلك إذ أنهم كانوا يتعبدون فيها رغم البرد الشديد، فتميم الداري رضي الله عنه، وسعيد بن جبير، والإمام أبو حنيفة النعمان، رحمهما الله كانوا يختمون القرآن في ركعة واحدة في أناسٍ لا يحصون كثرةً كما قال النووي رحمه الله، ولعل هذا في ليالي الشتاء الطويلة، أضف لذلك بركة الوقت.
وهذا سيف الله المسلول لا يرى سعادته فى أمر من أمور الدنيا، بل يقول عن نفسه: (ولأنى فى كتيبة من المهاجرين والأنصار، فى ليلة شديدة البرد، أترقب منها الهجوم على العدو أحب من أن تزف إليّ عروس).
● صيد العصافير في البرد :
يُحكى أن صياداً كان يصيد العصافير في يوم بارد ويبكي من شدة البرد، فقال عصفور لصاحبه : ألا ترى رقّة قلبه وسَيَلان دمعه ؟ فقال له صاحبه : ويحك، لا تنظر إلى الدمع في عينيه، بل انظر ما تصنع يداه. والحكمة في القصة معروفة.
● البرد والحرير :
من المعلوم في ديننا إباحةُ الحرير للنساء مطلقاً، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، من تلك الحالات لبس الحرير في شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه، وهذا من تيسير الله تعالى وكمال شرعه ورحمته.
● الخَمر والدفء الكاذب :
يقول د. محمد علي البار في مقال له عن ( التداوي بالمحرمات ) : ’’ ومن المنافع الموهومة في الخمر أنها تدفئ الجسم في الجو البارد القارس، فقد روى أبو داود في سننه أن ديلم الحميري جاء في وفد اليمن، فقال : ((يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح فنتقوى به على أعمالنا وبرد بلادنا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل يسكر؟ قال : نعم، قال : فاجتنبوه، قال : إن الناس غير تاركيه، قال : فإن لم يتركوه فقاتلوهم)).
جاء الطب بعد هذه الحادثة بألف وأربعمائة عام ليقول لنا : إن ذلك الدفء ليس إلا من قبيل الوهم، فالخمر توسع الأوعية الدموية، وخاصة تلك التي تحت الجلد، فيشعر المرء بالدفء ويفقد حرارة جسمه في الجو القارس، وما يزيد الطين بلة أن الإنسان المخمور يفقد قدرته على توليد الطاقة من الارتعاش الذي يحدث عند الشعور بالبرد، ولذا يتوفى كل عام بضع مئات في الحدائق العامة والمتنزهات في أعياد رأس السنة وأعياد الميلاد في الغرب بسبب شرب الخمر وفقدان الحرارة، ويموتون وهم ينعمون بالدفء الكاذب.
● الفجر في البرد القارس :
حُكي عن أحد الشباب الصالح أنه سافر إلى بريطانيا للدراسة هناك، ثم سكن مع أسرة بريطانية فأدخلوه في البيت مضطراً : { إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام:119]، فلما دخل كان يصلي الفجر في الجو القارس جو الثلج، يقوم إلى الصنبور فيتوضأ، فكانت عجوز بريطانية تقول له : لماذا لا تؤخر الصلاة عن هذا الوقت ؟ قال : ديني أمرني أن أصلي في هذا الوقت، قالت: لو أخرت لأن البرد قارص قال: لو أخرت ما قبل الله مني، فهزت العجوز رأسها وقالت : هذه إرادة تكسر الحديد.
● فائدة لغوية :
( القر ) – بفتح القاف وبالضم – البرد، ولكنهم أوجبوا الفتح مع «الحَر» للمشاكلة.
● بردٌ وزمهرير :
جاء فِي الصَّحِيحَيْنِ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : رَبِّي أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ }، فَالْمُؤْمِنُ يَدْفَعُ بِصَبْرِهِ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهَا وَالْمُنَافِقُ يَفِرُّ مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا وَبَرْدِهَا حَتَّى يَقَعَ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ،
ويقول تعالى عن أهل الجنة : ( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا )، فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر، ندي في غير برد. فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير وهو البرد القارس. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهلها.