نحن والقرآن .. بين التَحبير والتَثوير
حضرموت حُرّة/ بقلم: أحمد باصهي
لايزالُ شهرُ القرآن يُتحفُنا بعطاياه كلّما سارت بنا الخُطى في رِياضِه وثناياه ، كيف لا ؟ والمسلمون في الأرض كلها يتلون آياتِه ويصدحون بها في المحاريب كما في البيوت فُرادى ومجتمعين يرتعون من رِياض الجنة التي قال عنها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل ومارياضُ الجنة قال مجالسُ الذّكر .
ولقد أبدع المسلمون أيّما إبداع في حفظ القرآن وضبطه ونقله غضّاً طريّاً كما أنزل من ربّ العزة والجلال على جبريل عليه السلام الذي أوحى به على رسولنا الكريم و نقله صحابته الكرام إلى تابعيهم جيلا بعد جيل ليتصل هذا السند المبارك وتلك السلسة الذهبية فيتحقق الإعجاز في قول الله تعالى ( إنّا نحنُ نزّلنا الذكر وإنّا له لحفظون) .
ولاشك أن دوام التلاوة وجريان اللسان بها لها عِظَمُ أجرها كماقال النبي صلى الله عليه وسلم كل حرف بعشر حسنات لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف .
وسلامتها تفضي إلى سلامة الفهم، وإتقان الأداء وهو بابٌ موصل إلى التدبُّر والتفكّر . والترسّل في القرآن بترتيل وترتيب مُعينٌ من معينات الفهم، ولحكمة ربانية كان جبريل عليه السلام يعارض النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كلّ عام مرةٍ، فلما كان العام الذي تُوفِّي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه بالقرآن مرتين.. ولذلك، قال السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن “إنّ التحقيق يكون للرياضة والتعلم والتمرين ، والترتيل يكون للتدبُّر والتفكّر والاستنباط”.
وهكذا يضاعف الله الأجور فيقال أقرأ وارتقِ فإن منزلتك عند آخر آية تلوتها.
ثم يأتي حضور القلب أثناء تلك التلاوة وانصرافه عن صوراف المشاغل من تصاريف الزمان وحوادث المكان .
مالي وللدنيا وقرآني معي
أتلو فتزدهرُ الجِنانُ بأضلعي
وأغيبُ عن هذا الوجودِ فلا أرى
إلّا نعيماً في جهاتي الأربعِ
ذلك أنّ حضور القلب من معينات فهم القرآن الكريم وأُسس الإفادة منه ، فكيف يفتح القرآن كنوزه لقلبٍ غافلٍ غير يقظان، أو لاهٍ مشغول عن عطائه وفيضه.. إنّ القلب إذا حضر عند سماع القرآن، أو تلاوته وقراءته، فُتحت أمامه مغاليق الفهم، وتبدّد لديه كسف الظلام، فإذا بنور القرآن يسري في عقله وقلبه وروحه ودمه؛ فيجعله إنساناً آخر؛ إنساناً قرآنياً يتحرك بالقرآن في شغله ومحياه، ومصبحه وممساه.. تتماسك أمامه القيم، ولا تنفلت من بين يديه المعايير.
ولعل ما يعين على شدّ انتباه السامع للقرآن الكريم هو حُسْنُ الصوت وجماله بل و تحبيره كما رُوي عن سيدنا ابي موسى الأشعري يوم أن قيل له أن رسول الله استمع إليك وأنت تقرأ القرآن فقال لوعلمتُ لحبّرتُه له تحبيرا ( عن أنس رضي الله عنه أن أبا موسى رضي الله عنه كان يقرأ ذات ليلة فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع فلما أصبح قيل له قال: لو علمتُ لحبَّرتُ لك تحبيرًا ولشوَّقتُ لك تشويقًا. ) فجمال الصوت يشد إليه السامعين ويرغّبهم في سماع المزيد وهو ماحرصت عليه مراكز تحفيظ كتاب الله في بلادنا حيث يُلاحظ أن أمر الحفظ والتلاوة بمستوياتها المختلفة ومقامتها المتنوعة قد أخذ الحيز الأكبر من مساحة اهتمامنا بكتاب ربنا عوضاً عن اهتمامنا المتوازن بحيث نعطي كل جانب من الجوانب حقه ومستحقه من الاهتمام والتركيز وصولا إلى منهج متكامل في التعامل مع القرآن العظيم بغية تحقيق مراد الله منه تلاوة وتدبرا وفهما وتطبيقاً.
حيث المدارسة هي صورة من صور الرغبة في تفهُّم القرآن الكريم، والوقوف على حروفه وحدوده، واستنباط حِكَمِه وأسراره، وقِيَمِه ومعانيه، وهذا ما حثّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورغّب فيه بقوله: “ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلّا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده”. وهي لون من ألوان إعمال الفكر، واستدعاء المعاني والاجتماع على مائدة قرآنية واحدة، يقطف منها أصحاب ثقافات متعددة، يأخذون منها ما تطيب به نفوسهم، وتَصحُ به عقولهم، وقد كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن، ويعيشون حوله بل به.. فهذه المدارسة تعين على توقّد الذهن، وحضور العقل، وتكامل الفكر؛ حتى يفيد المتدارسون للقرآن أكبر فائدة . وهي كذلك إثارة للقرآن وتثوير لمعانيه الكامنة ، فقد رُوي عن سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
(من أراد خير الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين) والتثوير هنا بمعنى الإثارة والحرث والتقليب كما جاء في الآية الكريمة (وأثاروا الأرض ) فتقليب زوايا النظر في آي القرآن استنباطا لأسرارها ومعانيها وبحثا عن أدوية لكثير من العلل التي أصبنا بها وعن حلول ومخارج لعويصات المشاكل التي ورطنا فيها يوم أن تخلينا عن منهاج ربنا أو حصرناه في المحاريب والزوايا للسماع والمواجيد وأقصيناه عن سُوح الحياة وميادين العمل تاركين لكل صاحب نظرية طارئة أن يجرب فينا ما وسع له أن يجرب .
ولا يختلف اثنان على أهمية الدور الذي تقوم به تلك المراكز وهو جهدٌ مقدّر ٌ ومشكور ولابد أنّهم في الصدارة من هذا الهم وهذا السعي وهذا النداء لأن يكون شهر رمضان منطلقاً لتقييم الجهود وتنظيمها بما يحقق للقرآن الكريم كتاب الله العظيم أسمى درجات الإتقان في الحفظ والانضباط في الأداء والجمال في الصوت والعمق في الفهم والصدق في التطبيق .