مركز حضرموت للدراسات الإستشرافية (المستقبلية)
حضرموت حُرّة/ بقلم: أحمد باصهي
مَنْ يتابع شغف الشباب وحماسهم هذه الأيام بالتنقيب عن التاريخ وتوثيقه يظن أن الحضارمة كما يقال أنهم تجار بالفطرة فهم مؤرخون بالفطرة كذلك.
جهود طيبة وإن كانت مبعثرة لايربطها رابط ولا يشدّها هدف بل تكاد تكون مناسبتية أو لتزجية الفراغ، وبالطبع لا أقصد المتمرسين من أساتذتنا الإجلّاء وما يقومون به من خدمة للتراث والتاريخ حفظا لهويتنا من التزوير وحفاظا على موروثنا الحضاري الفكري والثقافي من الإندثار.
غير أن ما لفت نظري ودفعني لتناول الموضوع هو هذه الهبة الملحوظة لكثير من الشباب للغوص في دقائق المرويات وتفاصيلها ونقلها دون تروٍٍ أو تمحيص، بحيث لاندري أصدق رواتٌها أم توهموا .
فضننتُ بهذا الجهد النبيل وهذه الطاقات البريئة والنوايا الطاهرة أن تُبدد سدىً، فتكون صيحةً في واد أو نفخةً في رماد أو تستبدل المهم بالأهم بسبب غبش الرؤيا وانعدام الرؤى والموجهات والمستهدفات في التخطيط الاستراتيجي سواءً من الدولة أو دوائر وفعاليات المجتمع من منظمات وهيئات .
لذا أقترحتُ عنوانا لا جود له – فيما أعتقد – إلا في مخيلتي أو في مدونة الأماني والآمال وهكذا كل فكرة منبعها الخيال ومنشأؤها الوجدان .
لكن لمَ لا تُوجَه طاقات الشباب وأخص الباحثين والمهتمين منهم إلى مثل هكذا دراسات وهكذا مراكز تهتم بالدراسات الإستشرافية أو ما يعرف بعلم المستقبل وهو علم شق طريقه ضمن المساقات المعرفية كأحد فروع علم الإجتماع يُدرّس في الجامعات وتعقد من أجله المؤتمرات وورش العمل والندوات بحثا عن كلِّ جديد وارد وكلِّ مستظرَف شارد .
فنحن اليوم أقرب مانكون إلى المستقبل منا إلى الماضي، إذ الماضي انتهى بكل مافيه ولم يبق لنا منه إلّا العبر لا العبرات ، بينما المستقبل ذاهبون إليه ومعنا من أبنائنا وأحفادنا أجيال وأجيال وتنتظرنا من الملفات والقضايا أرتال وأرتال.
فما نعانيه من مشكلات اليوم هي في الأساس نتائج لمقدمات الماضي كنا عنها في غفلة فداهمتنا على حين غرّة في الوقت الذي بددنا جهودنا في قضايا لا يترتب عليها عمل ولا يُرجى منها أمل وهي نفسها اليوم تطحن أوقاتنا وجهودنا في صيرورة مكررة وجهود مبعثرة .
فهل نولي مستقبلنا ولو شيئا يسيرا من جهودنا في التغني بالماضي وتكرار صُوره وأحداثه إلا ماكان منها للدراسة والبحث والإسقاط بحثا عن جذور مشكلاتنا الراهنة وإيجاد الحلول لها.
إن الإحتفاء المبالغ فيه بالماضي ورموزه وأحداثه ومروياته وقصص الأنساب والألقاب الناتجة عن فترة التمييز والتمايز الطبقي والهرمية الإجتماعية التي شهدت دورات من التغيير والتبديل تبعا لجولات الصراع التي شهدتها بلادنا في الحُقب الغابرة هو نوع من الترف الفكري والثقافي كم نحن جديرين بالتخلي عنه لننفض عن كواهلنا غبار التاريخ ونتخفف من حمولته الثقيلة المرهِقة وكذا من أفكاره المرهَقة – بفتح الهاء – كما يقول الفيلسوف الهولندي اسبينوزا .
إذ ليس لنا إلّا أن نقول كما قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ( تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون) سورة البقرة ونتفرغ لواجب الوقت ومهمة الحاضر والإعداد لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا .
فليس من المعقول ولا المقبول أن تهتم الدول والشعوب من حولنا في الأقليم الذي يشاطروننا فيه الأرض والماء والهواء بمشاريعهم المستقبلية ويضعون الخطط والرؤى لعشر وعشرين سنة قادمة ونحن كأنما نعيش أحداث مسلسل تاريخي نطارد التحور A والعينة B ونفكك كل المفكك أصلا من أبنيتنا الإجتماعية والثقافية . مالذي يغرينا بالماضي العتيق السحيق إلى هذه الدرجة من الوله والتعلق ؟ هل هو الفراغ أم الإعتداد بالذات والأصل والنسب والحسب. أين نحن من قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه .
إنّ الفتى من يقول هاأنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي .
ونظرا لأن دراسات المستقبل ليست تحليلات رغائبية وتصورات حالمة بل هي علم مبني على خوارزميات ومعلومات موثقة وإحصاءات دقيقة .
فنحن بحاجة إلى المختصين من أبنائنا ليقدموا لنا تصوراتهم عن المستقبل في التخطيط الحضري والنمو السكاني وبدائل الطاقة النظيفة والزراعة ومخصبات الأرض وحلول مقاومة التصحر وتقنيات التعليم الحديثة وتطبيقات التعلم الذاتي والتعليم عن بعد ومستجدات الأمراض والأوبئة والأرصاد والكوارث الطبيعية ومصفوفة طويلة من الدراسات و الأبحاث ربما تبدو أنها أحلام لا يصدقها الواقع ولكن ديننا الحنيف علمنا التحليق في السماء لا الإلتصاق بالأرض والنظر إلى المستقبل بتفاؤل وأمل يسنده تخطيط وعمل أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها . والحديث صحيح رواه الإمام أحمد وغيره.