وصف الطبيعة الحضرمية في أشعار الحضارم
حضرموت حُرّة/ بقلم: د. أحمد باحارثة
جمال الطبيعة لا يتحدد بمشهد ولا بلون ولا بأجواء بعينها، فكل مشهد من مشاهدها، له جماله الخاص، فضلا عن أثره في نفس الشاعر الذي اعتاد على العيش فيها، وهو ما عبر عنه الشاعر حسن بن عبيد الله، فقال في وصف طبيعة حضرموت القاحلة:
كل ما في الأرض من حسن دون وادي الرمل في الحسن
فهو في غــــــــــــــــــــــــــــــــبراء حلته يتحدى أخضـــــــــــــــــــــــــــر الدمن
تنعش الكســــــــــــــــــــــــــلان تربته وتثير الشــــــــــــــــــــــــعر في اللقن
فضلا عن أن بعض مظاهر الطبيعة مشتركة في منظرها، موحدة في أثرها، كالسماء وما تزدان به من شمس، وقمر، ونجوم، وسحاب، ومثله أجواء الصباح، والطقس الماطر، ورهبة الليل وهواؤه العليل، وصفاء السحر وصفرة الأصيل، ونحو ذلك، فالشاعر لا تهتز شاعريته لجمال طبيعة دون غيرها كما قد يظن البعض، ولاسيما بعض الحضارم الساخطين على بيئتهم وطبيعتهم، ولحق بهم بعض النقاد، كإشارة الناقد سعيد عوض باوزير إلى شح الطبيعة وقسوتها على هذه البلاد، وخلوها من المناظر الخلابة الساحرة، التي تثير الشاعرية وتغذيها، وقول ناقد آخر في سياق تناوله لشعر الطبيعة عند صالح الحامد: شاعرنا لم ينظم ديوانه وهو في الصحراء، ولا على قلة جبل من جبال الأحقاف الطلس، ونسوا أن الشاعر العربي في جاهليته قد مد ديوان شعره بوصف زاخر للطبيعة في قلب الجزيرة العربية، وليس فيها سوى الصحاري مع ما تحتويه وحشة ووحوش، ومع ذلك فإن لها جمالها في صمتها وحركتها، لا يخطئه من يتحلى بالشاعرية الصادقة، ويتصف بنقاء الذائقة.
هذا وإن وصف طبيعة الوطن، وتجلية محاسنها، يجعل أبناءه يقدّرون وطنهم، ويعشقونه، ويزدادون به تمسكًا، وفيه فناء، وقد فطن لهذا الشعراء العرب في جاهليتهم، وقلما خلت قصيدة كبيرة من وصف الطبيعة العربية، ولأمر ما رأينا شاعرًا حضرميًا مقيمًا في الهند، وهي من أحسن بلاد الله طبيعة، لكنه مع ذلك يكثر من وصف طبيعة وطنه في بعض غر قصائده المنفعلة بالحب والحنين لحضرموت، إنه الشاعر أبو بكر بن شهاب، كقوله:
أمحدثي عمن أحـــــــــــــــــــــــــــب وأعشق زدني فبي لهم اشــــــــــــــــــتياق مقلق
ناشدتك الرحمن هل جزت الحمى حيث البواسق والأراك المـــــــــــورق
فبذلك الوادي الخصـــــــــــــــــيب أهلة في الدور إلا أنها لا تمحـــــــــــــــــــــــق
سفح به الحصــــــــــــــــــــــباء در، والثرى مسك بأذيال الخراعـــــــــــــب يعبق
وإذا النســــــــــــــــــيم جرى عليه رأيتني أصبو إلى نفس النســــــــيم وأنشق
لولا توقعه زيارة سوحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكم فيرى مضارب حضرموت ويرمق
فالشاعر الحضرمي التفت لطبيعة بلاده، فمنهم المكثر، ومنهم المقل، ولحسن الحظ أن أكثر شعرائنا لم يلتفتوا لأقوال أولئك النقاد المحبطة، وقد رأينا بعض النقاد في الأدب اليمني يلمزون بعض الشعراء بعدم وجود خصوصية في أشعارهم تتعلق ببلدانهم وطبيعتها، كما لاحظه البردوني مثلا في شعر الزبيري، لكننا هنا نرى الطبيعة الحضرمية بارزة بخصوصيتها في شعر من يصفها، ومباينًا لما يقوله الشاعر نفسه في وصف بيئة مغايرة خارج حضرموت، وأبرز ما تناولوه بالوصف في مشاهد السِّيف أو ساحل البحر، والنخيل التي تعد أيقونة الطبيعة الحضرمية، والبساتين الزراعية المتناثرة بإبداع الفلاح الحضرمي حيث تخصب التربة، ولاسيما في مناطق دوعن وتريم وسيوون والغيل.
ونبدأ بوصف بعض الشعراء لأجواء ساحل حضرموت ببحره ورماله وهوائه، كما ورد في مطلع قصيدة (درب السِّيف)، والسيف بكسر السين تعني الساحل، وهي المفردة المتداولة لدى العامة، ولها نصيبها من الفصاحة، فيقول حسن بن عبيد الله:
أهو البحر المحيط
أم هو البر المحيط
ها هنا الدأماء لا تبصر فيها عوجا
وهنا الكثبان كالدأماء مارت لججا
وسفين جاريات
ونخيل باسقات
والهواء الطلق كالوجه البشوش
أو كأنفاس الحبيب
ويقول الشاعر خالد عبد العزيز الذي أكثر في شعره من وصف المكلا، في ذكر مظاهر الطبيعة في صباحها الضاحي:
تطل الشمس صبحًا ليس إلا لتقبيل الســـــــــــــواحل في المكلا
فتحضنها الشــــــــــوارع بابتهاج فتكســــــــــــــــــو دورها ضوءًا وظلا
ويصحو البحــــــــر مبتلا رذاذًا ويحبو الموج نحو الشط مهلا
وهذا السيف أو الساحل بالمكلا تعرض في الثمانينيات لعمليات ردم لأغراض تتعلق بالبنية التحتية للمدينة، لكن ذلك لم يرق لبعض أدبائها ومنهم الشاعر خالد عبد العزيز الذي بكاه في بعض شعره، كقوله:
هالوا عليها تراب الكبس وانتهشوا سيف المكلا انتهاش الذئب للحمل
إني لأبكي عليها عالــــــــــــــــــــــمًا سلفًا أني على فائت أبـــــــــــــــــــــــــــكي بلا أمل
ويصف الشاعر الحامد قصر السلطان القعيطي الواقع على شاطئ البحر بمدينة المكلا، يقول:
القصر مختال بمجدك شامخ فيكاد من عجب يطير صعودا
وتراه منتصــــــــــــبًا، على أقـدامه تجثو أواذي الخضــــــم سجودا
ومن أجواء وادي حضرموت يأتي في المقدمة وصفهم لأشجار النخيل، فنجد الشاعر حسن بن عبيد الله يقول:
ونخيل الرمــــــــــــــــــــــــــل منظرها ملتقى التقــــــــــــــــــــديس والفتن
وإذا جـــــــــــــــــــــــــن الظلام تُرى في سواد الليـــــــــــــــل كالسفن
وأشجار النخيل لا تخلو منها بعض مناطق الساحل أيضًا، فنرى الشاعر خالد عبد العزيز يقول عن منطقتي الديس، والطويلة بفوة:
انظر الباســــــــــقات في الديس نخل أم صـــــــــــبايا تختال غنجًا ودلا
طال نخل الطويلَ تيـــــهًا على النخـ ـل وما كل ما تطاول نخــــــــــــــــلا
وفي منطقة غيل باوزير يقول:
يلقي عليـــك نخيــــــــــــــلها بظلاله وكأنه يلقـــــــــــــــــــــاك بالأحضان
والعشب يفترش الثرى سجـــادة منقوشــــــــــــــــــة بالفل والريحان
والعتم لا يدري أيجري إذ جرى من ماء عيني أم من المعيان
هذي بســـــــــاتين الطفولة أومأت مشتاقة نحـــوي بغصن البان
فاستقبل الخضــراء وادخل آمنًا في جنة الدنيــــا بلا استئذان
وكانوا كثيرًا ما يسعدون بالروحات في البساتين التي تعج بالنخيل، كما قال علي باكثير:
يا رعى الله يومًا تحت ظل النخيل
قد قضيناه في أنـ ـس بخـــــــــير مقيل
ويقول زين العابدين الجنيد:
أتمشى في مروج طلها بارد يشفي جراحات الكليم
بين زهر ونخيل طلعها مثلما قد أخبر الباري هضيم
وخرير الماء في جدوله كان أشهى من عبارات النديم
ومثله الشاعر صالح بن علي الحامد في قصيدة خص بها طبيعة موطنه الحضرمي، في قصيدته السينية التأملية، ومما قاله يذكر النخيل:
خلني في عـــواطفي وانفرادي غارق اللب في شـــــــــــعوري وحسي
آنسًا بالمروج قد جادها الغيـ ـث فهشت واعشوشبت بعد يبس
وهنا النخــــــــــل والنسيم يناغيـ ـها فيجري الحديث همسًا بهمس
وتراها والريـــــــــــح تفلي شـواها كجوارٍ شعثٍ أُصــــــــــــــــــــــــــــبن بمس
منظر معجــــــــــــــــــــب تظل عليه شمخ تحســـــــــــــــــــر العيون وتخسي
إنه معجب بمنظر طبيعة أرضه إعجابًا لا يقل عن مشاهداته في الجزائر الجاوية (إندونيسيا)، وهو ما يدل على ما قررناه قبل من أن لكل طبيعة جمالها الخاص الذي يجلب الإعجاب.
وقد عرفت مدينة تريم، ولاسيما منطقة عيديد، بقصورها البديعة التي تحفها الحدائق، ويصف زين العابدين الجنيد حديقة منها لأحد سراتها، تعج بالنخيل والزهور والجداول والأطيار، فيقول، وبه نختم،:
بعيــــــــــــــــــــــــــــديد روض فيه أعظم راحة وفي أفقه بدر المحاسن مشــــرق
إذا نظر المرء الكئيب جمال ذي الـ ـحديقة من رق الكــــــــــــــــــآبة يعتق
ويطربه فيها الهزار بصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوته فيضحي ويمسي وهو لاه يصفق
يروق الذي فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــها ينزه طرفه زهور لها شكل جميـــــــــــــــل ورونق
إذا سحبت ريح النســــــــــــــــــــيم ذيولها عليها يفوح المسك منها وينشق
جداولها تجري فتسقي نخـــــــــــــــــــــــيلها بماء فرات حـــــــــــــــــــــــــــــولها يتدفق