رأي

طاران..الماضي الذي سكننا ونسكنه

حضرموت حُرّة/ بقلم: د.عبدالعزيز صالح جابر


الذكريات الجميلة لها في النفس اثرا لا يمكن ان تغادرها ، يعيش  الإنسان احيانا  أسيراً لذكرياته، لا يستطيع الفكاك منها، ولا هي تبرح مكانها في عقله وقلبه، فتتبعه أينما يسير، ويسير خلفها حيثما سارت، مأخوذاً مجذوباً، فكلّما هبّت نسمةٌ منها على خاطره، أو زارت قدماه موطناً من مواطنها، فتهتاج عليه وتلاحق أنفاسه ،والماضي للإنسان تربته التي نبت فيها، واحتضنت ثراها جذوره، إنه يستمد منه رحيقه وأنفاسه، ونبضات حياته، وحين نعود إلى الماضي، ولو في زيارة خاطفة، فإننا نعود إلى الحياة أو تعود إلينا الحياة .
زيارتي يوم الاحد لمنطقة طاران بوادي عدم بمديرية ساه ( المشاركة في زواج الشاب خالد جمال عبدالله بن عبودان)  بعد غياب عنها لمدة 25 عاما من اخر زيارة لها  ، فبعد رؤية منازلها ومبانيها من اعلى (عقبة طاران ) ، وبعد معانقة  أهلها الطيبون ، شعرت أن شيئاً ما بل أشياء عديدة افتقدها فيها ، يخلو منها المشهد في الحجر والمدر والبشر ، أشياء كثيرة قد تغيرت، في المكان وأهله ،  غاب أناسٌ وحضر آخرون، وتغيرت الملامح، وتغير الزمان، وتغير المكان ، وظهرت أثار كارثة امطار وسيول 24 اكتوبر  2008 فكانت بادية للعيان ، ولكن الجميل هو  الهرم الشامخ لهذه المنطقة لم يزل واقفا كالطود ، انه رجل الكرم والجود والطيبة والاحسان  شيخ ومقدم المنطقة الجد الفاضل /سعيد مبارك بن عبودان الجابري ( الذي يبلغ من العمر  اكثر من 100 عاما ) نسال الله ان يحفظه  ويمتعه بالصحة والعافية.
علاقتي بمنطقة طاران بوادي عدم بمديرية ساه ترجع عندما تم اختياري للتدريس فيها كخدمة وطنية بعد انهاء المرحلة الثانوية ، فتعود لذلك اليوم الذي حطت قدماي فيها في صباح  السبت 5 أكتوبر 1991م عند الساعة العاشرة والربع  بعد رحلة شاقة في وسط وادي عدم  انطلقت من مدينة ساه عند الساعة السابعة صباحا ، فتراءات لي  تلك البيوت الطينية المشيدة بدفء وقد انبعث من أيدي ساكنيها رغم بساطتها الطيبة والكرم والعطاء ، ومع ما تراه العين من مساحات ضيقة  تفصل بين البيوت دون أن تفصل بين قلوب أصحابها، فهم اسرة واحدة ، يتكاتفون في أفراحهم ومآسيهم، ويتزاورون ويتعاونون فيرسمون أجمل صور التكافل الاجتماعي ، وفيها  يكمن دفء القرب وأصالة الكرم وطيبة الانسان ونبع العطاء ، فهي منطقة سخية تجود بكل ما فيها من خير وفير  ووفاق وانسجام ما بين اهلها وناسها .
عام دراسي كامل (1991-1992) اعتبره من أجمل الأيام التي لها ذكريات جميلة في حياتي ، فقد غمروني اهلها خلال عملي مدرسا بمدرستهم العتيقة -التي يعود تاريخها لعام 1962م – بكرمهم وروعة ضيافتهم ورقي تعاملهم وحسن استقبالهم ، وهي من سجايا اخلاقهم وتقديرهم للعلم والمعلم ،  فالمعلم له مكانته واحترامه وتقديره ، فإن تذمروا اولادهم لم يؤيدوهم, وإن أساءوا لم يوافقوهم ، وإن أخطأوا حاسبوهم ، لم نشهد خلال عاما كاملا الا كل خير ، وهنا جنوا خير الثمار فكانت مخرجات المدرسة مما يشار لها بالبنان .
ولعل ما خرجت به من انطباع في ختام هذه الزيارة الخاطفة  لطاران ، ومما زاد تقديري لاهلها انهم متمسكون بها ولا يقبلون عنها بديلا ، فلا تستهويهم أضواء المدن الكبيرة ، فظلوا متمسكون بتربة الأرض التي ترعرعوا فيها رغم قسوة الطبيعة والمعيشة ، ومع انتقال البعض منهم لطلب الرزق والاستقرار في هذه المدينة او تلك داخل الوطن او خارجه ، الا ان طاران هي الاساس ، لذا فالحياة تدب فيها والعمل على تنميتها هدف شبابها وشيوخها،  وبذلوا الجهد  لايصال صوتهم بكل قوة للجهات الحكومية في الوادي والمحافظة وللمنظمات الدولية وهو ما اثمر عن تحقيق جملة من المشاريع في قطاع التربية والتعليم والصحة  والكهرباء والمياه والطرقات ولكن لا تلبي الطموحات ، وهذه دعوة نوجهها للاستاذ / مبخوت مبارك بن ماضي محافظ محافظة حضرموت والاستاذ /عامر سعيد العامري وكيل المحافظة لشؤون الوادي والصحراء ان يلتفتوا لطاران وبقية مناطق وادي عدم وتلبية وتحقيق مطالب الاهالي في قطاعات التنمية التي تحتاجها هذه المناطق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى