نحن و رمضان
بين
الدين الكامل و التديُّن المنقوص
حضرموت حُرّة/ بقلم: أحمد باصهي
تتغيرُ أنماطُ سلوكنا معيشياً وحياتياً خلال شهر رمضان بانخراطنا في دورة إيمانية , صياما وقياما وتبتّلا وتلاوةً للقرآن الكريم وإقبالا على الله بوتيرة ليس لها مثيل في باقي شهور السنة . فهو موسمٌ للطاعات والعبادات تعمُ أنوارُه وبركاتُه المعمورة بأسرها .
وكلُّ عبادة شرعها الله سبحانه وتعالى إنّما شرعها أولا من أجل أن يتعبدنا بها لتكون خالصة صريحة له وحده جلّ وعلّا وصحيحة وفق مراده منا وشرعته ومنهاجه الذي بلّغنا به قولاً وعملاً رسولُه الكريم الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم لتحقيق غاية من غايات الكمال البشري المنشود المنعقد على تحصيله رضا الله والفوز بالجنة والنجاة من النار . فالصلآة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة لتطهر نفوسنا من أدران الحرص وأوساخ الشُح ، وتعيد تشكيل الصورة الذهنية للمال في نفوسنا ، والصوم ليكرّس معنى التقوى في نفوسنا كما لم تكن من قبل ، حيث انفرد سبحانه وتعالى بالجزاء على هذه الشعيرة كونها تتحقق فيها انسيابية الطاعة المرنة التي لا سلطان لأحد في فرضها أو مراقبتها ؛ فجاء في الحديث القدسي” كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به” .
وكذلك الحج وما ارتبط به من هدي وشعائر جعلها الله جميعا لنبني في أنفسنا قناعات وسلوكيات المتقين ونشهد منافع جمّة في أمور الدنيا والدين على السواء .
ذلك هو الدِّينُ القيّم والدِّينُ الكامل الذي امتن الله علينا بكماله فقال جلّ وعلّا : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ). بل جعل هذا الدين هو الرسالة الخاتمة والنعمة التامة التي ارتضاها للبشرية جمعاء فكان رسولنا هو خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، وبعد وفاته أُغلقت دوائر الوحي عن كل إضافة أو حذف ، وهيأ الله سبحانه وتعالى من أصحاب رسول الله الغرّ الميامين مصابيح للهدى تتلمذوا على يد رسول الهدى وفيض الندى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى أصحابه ، فحفظوا عنه ووعوا وبلغوا الأمانة بإتقان منقطع النظير خلال المسيرة البشرية كلها على هذه الأرض . حيث لم يُتَح المجالُ لكائنٍ مَن كان أن يضيف شيئا أو يتصرف في شيء ؛ عدا الفهم الذي يؤتيه الله لمن يشاء من عباده الذين أخذ عليهم العهد ليبينوا للناس ويبلّغوا بأمانة علمية وشجاعة أدبية؛ لا يخشون في الله لومة لائم .
إنه بناء متكامل تتعاضد مكوناته وتتناسق جزئياته في سياق عجيب مُعجز يصدّق بعضُه بعضاً ، سبحان من ارتضاه لعباده .
وها هو رمضان قد بدأنا نجدُ رِيحَهُ ، وتشعُ علينا أنوارُه وعطاءاتُه ، ليت شعري كيف بنا أن نبقى في دائرته النورانية تلك ونتعافى من وباء تفلّتنا من أُطر الإلتزام العملي والسلوكي الذي لا يفتأ أن يظهر رويدا رويدا حالما تنقضي أيام رمضان ولياليه وكيف السبيل لصياغة حياتنا وفقا لمرئيات القرآن والسنة التي نكون أقرب مانكون إليهما قولا وعملا في رمضان حتى أن كثيرا من الناس يحرص على إحياء سنن مهجورة خلال أيام السنة الأخرى أو فلنقل قليل من يتعاهدها بالاتباع والتطبيق كالجلوس في المصلى إلى شروق الشمس والحرص على صلاة الضحى وإطلاق اللحى وزيارة الأقارب والأرحام وبذل المعروف والصدقات إنها إندفاعة إيمانية ما أجملها من اندفاعة ونشاط إيماني ما أروعه من نشاط.
كيف ينعكس ذلك على أعمالنا وممارستنا للحياة وشؤونها بعفوية وبساطة من غير تكلّف أو تزيّد أو تصنّع .
هذا الذي نريده و نبتغيه وهو انفعالنا و تفاعلنا مع ممارسة الشعائر والطاعات وجعلها أعمالاُ تٌؤدّى بإخلاص وإحسان وبين ممارستنا لأعمالنا اليومية المعتادة وجعلها عبادات تٌؤدّى بإتقان وجمال مبتغين بها وجه الله سبحانه وتعالى محتسبين الأجر والجزاء منه وحده ، ذلك لعمر الحق هو التدين المطلوب الذي لم يبرح مكانه للأسف من الهشاشة والضمور والنقص حتى يكاد يكون هذا الصدع الحاصل بين الدين كفهم واعتقاد وبين السلوك البشري كممارسة واعتياد انفصاما حادا بين العبادة وشؤون الحياة وهو فصام نكد لا ريب ولا ينبغى له أن يكون أصلاً فضلا عن أن يبقى .
إن مظاهر التدين في حياتنا لو أوليناها من الإهتمام مانولي الدين نفسه من تتبع وامتثال لاستطعنا تجسير الهوة القائمة بقنطرة الفهم عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أراده الشارع الحكيم منا لنحقق به سعادتنا في الدارين .
ذلك أن أغلب مشاكلنا اليوم مصدرها تديننا لا ديننا كما يدّعي من يقفون على الطرف الآخر من غلاة الحداثيين بزعمهم أننا إن أردنا التطور فلابد أن نحيّد الدين عن حياتنا وهي المقولة التي كذبها الواقع كما كذبتها الممارسات التاريخية للمسلمين في عصورهم الزاهرة.
ولعل من تجليات اهتمامنا بالدين ولله الحمد والمنة كثرة مراكز التحفيظ والمدارس والكليات التي تدرس العلوم الشرعية ولكن كم سيكتمل الإنجاز لو أننا أولينا محاضن التربية والتثقيف والترفيه للشباب وفقا لثقافتنا الإسلامية وضوابط شرعنا الحنيف وهيئات إصلاح ذات البين ومراكز حماية المستهلك وغيرها من المناشط المدنية التي تساهم في نشر القيم المجتمعية الفاضلة وتبث الطاقة الإيجابية المحفّزة للخير في شتى مجالات الحياة ضِعف هذا الإهتمام أو مثله على أقل تقدير حيث يتجلى فهمنا للدين واتباعنا لمقتضياته من خلال تعاملنا وتعاطينا مع يوميات الحياة وأحداثها بحيث نعيد للأخلاق محوريتها في البناء الإسلامي ومعاملة الناس بالحسنى كنتيجة لانفعالنا بما تقدم من عبادات وقربات الى الله ، فالإيمان بضعٌ وسبعون شعبة تستوعب كل مناشطنا الإجتماعية والثقافية منها بحيث بإمكاننا أن نجعل من شهر رمضان غيثا إيمانيا ماطرا ينزل على أرض واقعنا المُعاش فتهتزُ وتربو وتنبتُ من كلِّ زوجٍ بهيج .