معركة الحجاب والسفور في حضرموت
حضرموت حُرّة/ بقلم: د. أحمد باحارثة
إن الكلام حول قضية المرأة وحقوقها المسلوبة أو المنتقصة، والجدل حول الحجاب بوصفه عادة اجتماعية أو فريضة دينية، أثير في العالم العربي منذ مفتتح عصره الحديث، وله أعلامه ودعاته المعروفين، وما زال صداه يتردد إلى يوم الناس هذا، وخاض فيه الكتاب والشعراء، وشارك فيه المثقفون وعلماء الدين، كل يدلي بدلوه، ويدافع عن رأيه في الموضوع، فيتقاطعون في نواح من تلك القضية، ويتطاعنون في جوانب أخرى، وكان لصحافتنا المتقدمة في حضرموت مشاركتها في الجدال حول مختلف ما أثير من هذه المسائل الشائكة، أسهم فيه عدد من الكتاب والكاتبات، ولاسيما في صحيفة الطليعة التي فتحت صفحاتها لكل الآراء لكلا الطرفين المتحاورين.
أول مقال نجده يضع قضية المرأة ومسألة الحجاب محل اهتمام ونقاش في الصحافة الحضرمية كان للكاتب فريد محمد بركات (ت 2019)، وقد دعا فيه إلى تحرير المرأة في حضرموت بخروجها للعمل خارج بيتها، ونادى المرأة صراحة بترك الحجاب؛ تأسيًا بدعوة قاسم أمين في مصر، وقال: “آراؤنا الرجعية في المرأة خير مثال يترجم نوعية الأفكار المحشورة في عقولنا، والتي اعتبرناها بنفس راضية لا تحمل نفسها عناء المناقشة، وتسخير الحقيقة الموضوعية والعقل والمنطق للبث والنظر في هذه الأفكار، التي أضحت كما نتصورها فقط مجموعة من العادات والتقاليد غير القابلة للتغيير، أو حتى مجرد السؤال القابل للأخذ بوجهات النظر المتعدد”، وقال: “متى وجدنا صحفنا تنشر للمرأة، ومتى وجدنا كتاباتها وأفكارها التقدمية تغزو الآفاق، فسوف ندرك قرب اليوم الذي ترمي فيه الحجاب المشئوم، وتثور على كل المتزمتين الذين اختاروا لها الموت بين الجدران” (نحن والمرأة، فريد بركات، الطليعة ع 365، 31/8/1966)
فنهض كاتبان للرد عليه، أحدهما علي محمد حميد (ت 1999)، وقد أظهر صدمته بما أورده بركات في مقاله عن واقع المرأة العربية وتشبيهه بالسجن والكهف والجدران والظلام، فرفض حميد “ما انطوى عليه من هزء بتراثنا الروحي، ومن سخرية بتقاليدنا العربية والإسلامية، ومن تعريض بالمرأة”، ورأى أن الكاتب متأثر بحال المرأة في الحضارة الغربية، مع أن رجال التربية والاجتماع هناك ينددون به وبعبثيته، وبانعكاسه السلبي على حياتهم، ومن ثم يسأل حميد كاتب المقال “هل لديه إلمام بواقع الحياة في أوروبا وأمريكا، وهل يدرك سخطهم عليه ونقمتهم”، ثم ود لو أن الكاتب انطلق في نقده من ما يقتضيه واقع مجتمعه، وقال: “كنت أطمع من كاتب كهذا يتصدى لكتابة مقال عن المرأة أن يكون أكثر موضوعية وأكثر واقعية وأن يتفهم مقتضيات الواقع المعاش وعلى أساس من هذا يكتب ناقدا وضع المرأة مطالبًا بإتاحة الفرص أمامها كي تثبت وجودها بشكل أكثر بروزًا، وتسهم في مرحلة تحتاج إلى جهد الرجال والحريم على السواء” (هم والمرأة، علي محمد حميد، الرأي العام ع144، 31/10/1966).
والكاتب الآخر هو علي هود باعباد (ت 2016) في مقال يدفع فيه بعض ما أورده بركات، فقال منتقدًا الأساس الذي انطلق منه بركات في نقد المرأة الحضرمية: “شرح الكاتب قضية المرأة على نظريات غربية تأثر بها كنتيجة الغزو الثقافي والاستعماري الفكري”، وقال منتقدًا أسلوبه: “راح الكاتب يتهكم وينتقد وضع المرأة الحضرمية، بدلاً من أن يصلح، فحثها على الانفلات من الحياء والعفة والكرامة، وعلى أن تسير في موكب المرأة الغربية المتمردة، وراح يكيل عبارات الذم والاحتقار على احتشام المرأة، والتزامها منزلها الشريف، وعلى المجتمع بأسره، فوصف الحجاب (بالظلام)، والمنزل (بالسجن المحترم)” (المرأة والنظريات الغربية الاستعمارية، الطليعة ع371، 19/10/1966).
ووصل الرد على باعباد من كاتبة حضرمية هي سعاد عفيف، فقالت: “لا تخف يا أخي إن التحرر لن يذهب شرف المرأة الحضرمية، بل العكس، إنه يزيدها خبرة بالحياة، ويساعدها للوقوف مع الرجل، ومشاركته حياته ومتاعبه؛ لتتفاهم بحياتها معه، لا لتعيش على هامش الحياة”، ثم قالت: “إن أنت ثقفت ابنتك، وأسستها بتربية عربية صحيحة، وأعطيتها حريتها، فإن حضارة الغرب هذه لن تبهرها، ولن تؤثر فيها، ولا بتقاليدها ودينها، بل تكسبها المزيد من الوعي لتجنبها، ألا تثق بإسلامنا؟” (الشكل والجوهر، سعاد عفيف، الطليعة ع376، 23/11/1966).
وفي خطوة صعدت بهذا الموضوع نشرت صحيفة الطليعة لقاء مع سيدة من الأردن، كانت تعمل معلمة في حضرموت سنة 1964 تدعى صفاء علاء الدين تعرضت لقضية المرأة وحجابها، ومما ورد في كلامها: “لو نالت المرأة الحضرمية قسطًا وافرا من التعليم فلا أعتقد أنها ستتخلف عن أختها في أي بلد عربي آخر، ولكن المرأة الحضرمية مظلومة ومحرومة من حاجات كثيرة تتمتع بها غيرها في بلاد أخرى”، ثم قالت مشيرة للحجاب: “الحجاب أساس كل تأخر في هذا البلد، وأساس المصائب … إن الحجاب يدفع الكثيرات إلى الطريق غير السوي، فمثلا طالبتنا الصغيرة، والتي هي في سن المراهقة، ربما لا يكون عندها الإرشاد الكافي عن الخير والشر، فتندفع في طريق الشر متسترة وراء الحجاب”، وقالت في محاولتها لنزعه: “حاولت أنا وزميلاتي العمل على إبعاد هذا الحجاب، ولكن الطريق ليست سهلة، فلذا بدأنا في إقناعهن بفكرة البالطو، وأنه أستر لهن من الشقة … والآن عدد كبير منهن يرتدين البالطو، ومنهن من يضعن الحجاب على وجوههن، ومنهن من اكتفين بوضعه على رؤوسهن، أما في الشوارع الرئيسية فلا توجد واحدة تستطيع رفعه من وجهها، والمسألة تحتاج إلى زمن” (عميدة كلية المعلمات بالمكلا تتحدث عن الحجاب والتقاليد البالية، الطليعة ع376، 23/11/1966).
وكانت تصريحات تلك المعلمة العربية في لقائها من الصراحة في هذه القضية الحساسة في مجتمع حضرموت ما عقبها من ردود أفعال، فكتب عنها عمر محمد العمودي، فأشار أن هناك ردود فعل مرحبة، وأخرى مستاءة، فعن الأولى يقول مشيرًا لمكانة تلك المعلمة في الوسط الحضرمي: “إن الإجماع بين الطالبات وبقية المواطنين على أنها من خيرة المعلمات اللواتي قدِمن لهذا الغرض خلقًا واستقامة”، ثم عرج على الفئة المعترضة فقال: “علمت في اليومين الأخيرين بأن مجموعة من الشخصيات المحافظة عقدت اجتماعًا محدودًا في المكتبة السلطانية؛ لمناقشة هذه الملاحظات بشيء من ضيق الأفق، وسبق الإصرار للحكم عليها بمخالفة تعاليم الشرع والدين الحنيف … ومما كان له بالغ الأثر في نفسي أن يطالب هؤلاء المجتمعون في مداولاتهم المعزولة باستعداء السلطات لإبعاد هذه المربية الفاضلة”، ثم أكد الكاتب أن المهم هو المحافظة على الخلق، وليس الشكل الخارجي كاللباس الذي يعود أمره للعادات، وليس للدين الذي يهتم بالفضائل، وليس بالمظاهر التي تتغير بتغير الزمان، وهو هنا يشير إلى فكرة لبس بالطو بدلاً عن الشقة، ولم يشر إلى موقفه عن كلام المعلمة عن الحجاب، كغطاء للرأس ونقاب للوجه (ألا فلندع الزهور تتفتح، عمر محمد العمودي، الطليعة ع379، 7/12/1966).
لكن في مقالة أخرى ركز كاتبها، الذي لم يفصح عن اسمه ووصف نفسه بـ(المبلغون)، على مسألة الحجاب ورأي الأستاذة صفاء فيه، وشنع بقولها الذي وصفت فيه الحجاب بأنه “أساس كل تأخر في هذا البلد، وأساس كل المصائب”، وأشار إلى اعترافها بفعلها في نزعه عن طالباتها، وبأنها “تحاول هي وزميلاتها في العمل على إبعاد الحجاب”، ووصف كل ذلك بأنه “نكبة عظمى، ورزية كبرى، وتصريح خطير له أثره البالغ في نفوسنا جميعًا، نحن أبناء هذا البلد، أن يصدر من عميدة كلية البنات بالمكلا، باعتبارها المسئولة الأولى عن فتياتنا”، ثم أكد أن الحجاب من الدين، وليس عادة قابلة للتفريط عنها، وساق أدلة من القرآن الكريم على ذلك، ويؤيده بما للمرأة من جمال ينبغي أن يصان، وما فيها من ضعف يجب أن يراعى، مع بيان أن دين الإسلام هو من أعطى للمرأة حقوقها وكرامتها، وأجاب على دعوى أن الاستتار وراء الحجاب يسلك بالفتاة للانحراف بالاستشهاد بما يحدث في البلاد الأجنبية وبعض البلاد العربية التي تركت الحجاب من حوادث متعددة، وقال: “الدين حينما يفرض الحجاب ويوصي بالستر التام للجسم كله إنما يهدف إلى عدم الإيذاء للمرأة، وإن ما نشاهده من تهتك بعض النساء في الشوارع، وإظهار مواضع الزينة منها، واختلاطها بالرجال في الحفلات العامة، لمن السيئات الممقوتة” (عميدة كلية المعلمات بالمكلا تتجنى على تعاليم الإسلام، المبلغون، الطليعة ع385، 14/12/1966).
ويأتي الكاتب عباس العيدروس ليرد على ذلك الكاتب المستتر الكثير من أقواله، ورأى أنه قد أساء الظن بالمرأة حين نسبها إلى الضعف، وأنها ستكون مصدرًا لنشر الفساد والفتن والفواحش بمجرد تركها للحجاب وسفورها، ثم قال: “بودي أن أسأله فيما إذا كان هذا الكلام ينسحب أيضًا على الحضرميات المسلمات اللاتي يدرسن في الخارج، أو يعملن في الحقول جنبًا إلى جنب مع الرجل سافرات، يختلطن بالرجال في العمل، وفي مشاغل الحياة الاجتماعية، فهل يعني أن هذه معصية تؤدي إلى افتتان الرجال بالنساء، وتجر إلى الزنا والأذى، واختلاط الأنساب، وانتشار الفاحشة، فإذا كان الجواب بالإيجاب فهذه تهم يجب على نصف المجتمع الحضرمي، على الأقل، أن يطالب فيها بحق القذف، وإذا كانت الإجابة بالنفي سقط الأساس الذي بنى عليه المبلغون تهجمهم على هذه الأستاذة الفاضلة، وزهرات المجتمع الحضرمي”، ثم دخل في نقاش حول دلالات الآيات التي أوردها الكاتب عن الحجاب (المرأة المجني عليها، عباس حسين العيدروس، الطليعة ع382، 28/12/1966).
ولحق به الكاتب سالم عبد العزيز (ت 2005) بمقال وجه فيه نقده الصريح للحجاب، ورفض ربطه بالخلق أو الشرف، وقال: “إن شرف المجتمع يكمن في احترامه لنصفه الآخر، لا في احتقاره له، والزج به في سجن الحجاب، والمجتمع الذي يقوم على إهانة المرأة، ومنعها من المساهمة في تكوينه، لمجتمع منفصل يفتقر إلى الشرف قبل كل شيء، ومثل هذا المجتمع لا يوجد في القرن العشرين، إلا في حضرموت”، ورفض ربطه بالتدين فقال: “على المرأة العربية المسلمة في حضرموت أن تعي دينها، وتستلهم القرآن في تصرفاتها … فسوف يتضح لها أن الإسلام لا يفرض الحجاب، وإنما يفرض الحياء، وشتان بين ذل الحجاب وروعة الحياء” (المرأة، سالم محمد عبد العزيز، الطليعة ع383، 7/1/1967).
تلاه مقال لكاتب اكتفى من ذكر اسمه بلقبه العمودي، يبدو في مقاله متأثرًا بالمد الاشتراكي آنذاك؛ إذ يربط بين المرأة ومن يصفهم بالكادحين، ويرى أن قضيتهم واحدة متمثلة في الظلم الاجتماعي الواقع بهم، ويضرب أمثلته في نضال المرأة بالدول الاشتراكية حينها، ويختتم مقاله الذي نشرته الصحيفة على حلقتين بمخاطبة المرأة في حضرموت بقوله: “كلمة أخيرة أتوجه بها إلى أختي الحضرمية في البيت والمدرسة، وهي أن تعي مسئوليتها وواجباتها في نضالها الشاق الكبير من أجل إقامة مجتمع عربي كبير، يمتد من المحيط إلى الخليج، تسهم فيه مع كل إخوانها وأخواتها من أبناء وبنات الأمة العربية؛ انطلاقًا من إيمانهم المشترك لتحقيق أهدافهم في الحرية والاشتراكية والوحدة” (ليست المشكلة حجاب المرأة أو سفورها، العمودي، الطليعة ع387، 2/8/1967).
وفي العدد نفسه نشرت الصحيفة للكاتبة الحضرمية عائشة علي يوسف مقالاً عنوانه (إلى متى هذا الاستعباد للمرأة)، وكانت حينها مبتعثة للدراسة في العراق، ومما قالته في مقالها الذي أتى الأخير في تلك المعركة فأتى كالخطبة الختامية له، فقالت: “يا أعداء المرأة، يا أعداء الحياة، إن عجلة التقدم تجري سريعة، فلماذا تعيقون سيرها، إن ساعة الخلاص قد أتت معلنة لهؤلاء بأن عهدهم ولى، وإلى غير رجعة، وأقبل عهد إعطاء المرأة الحضرمية حقوقها؛ لتلحق بالركب السائر في طريق التقدم، ولترفع هذا الوطن إلى المكان اللائق به في هذا العصر” (إلى متى هذا الاستعباد للمرأة، عائشة علي يوسف، الطليعة ع387، 2/8/1967).
لقد كان جميع المتحدثين أو المتجادلين في تلك المقالات متفقين على أن المرأة بحاجة لمزيد من الحقوق، وأن تتخلص من كثير من القيود الاجتماعية، فاتفقوا على حقها في التعلم والعمل والمشاركة في النهوض الاجتماعي، وانحصر الاختلاف في اقتضاء ذلك ترك الحجاب، أم لا ضير من الإبقاء عليه، وكان ذلك ناتجًا في تباين توصيفه؛ في كونه عادة اجتماعية قابلة للتغيير والترك، أم فريضة دينية لا مناص من التمسك بها، فهؤلاء رأوا الحجاب أمرًا دينيًا، ومن ثم احتدوا في ردهم على من يدعو لتركه، واتهموهم بتقليد الغربيين، وشددوا على أن الحجاب لا يتنافى مع سعي المرأة في نيل حقوقها الاجتماعية الأخرى، بينما الآخرون رأوا الحجاب عادة اجتماعية تجاوزها العصر، ورفضوا اعتباره فريضة دينية ملزمة، ورأوا أن الأصل في الدين هو الخلق والحياء، وليس الحجاب كمظهر شكلي يخضع للذوق العصري، ومن ثم استهجنوا ربط التخلي عنه بأي نوع من الفساد في المجتمع.
وقد تحقق للمرأة الحضرمية ما اتفقوا عليه من حقوق اجتماعية، فشاركت نظيرها الرجل بحضرموت في التعلم في جميع التخصصات، والعمل في مختلف المؤسسات، وبرزت في كثير من المجالات، دراسة وعملاً، أما اللباس فقد غلب على نساء حضرموت لبس المعطف (البالطو) كما بشرت به تلك المعلمة العربية، وكان بداية ظهوره منذ منتصف الستينيات حسب ما ورد في استطلاع مجلة العربي عن المكلا، لكن مع التمسك بالحجاب كغطاء للرأس وساتر للوجه، وقليل منهن من تركن تغطية رءوسهن، أما الوجه فقد ساد لحين من الدهر ترك ستره، وكانت بدايته في المكلا منذ نهاية الثلاثينيات، ثم عاد أكثريتهن لستره إما تدينًا، أو عودة إلى العادة السابقة، وأسوأ من ذلك الانتقال من الحجاب اللبسي إلى الحجاب النفسي الذي خلق شرخًا اجتماعيًا في العلاقة بين المرأة والرجل، وأدى إلى خلق تشدد في لباس المرأة وعزلها، وأنتج سلوكًا منغلقًا ومبالغًا فيه لم يكن حتى معهودًا في سلوك شقيقاتهن من نساء السلف الصالح؛ أو كما يقول الشيخ الألباني: “إن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يخرج لنا جيلاً من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن في كل البلاد والأحوال، مع أزواجهن وغيرهم ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالقيام على خدمة الضيوف وإطعامهم، والخروج في الغزو يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة”.