قراءة في كتاب محمد جبريل (مدينة المهاجرين: حضرموت)
حضرموت حُرّة/ أ.د. مسعود عمشوش
على الرغم من أن محمد جبريل قد اشتهر في الوطن العربي وعدد من البلدان الغربية بفضل رواياته التي تجاوزت الثلاثين رواية وتدرس اليوم في لبنان والجزار وفرنسا، وقيام بعض المثقفين المصريين بترشيحه لنيل جائزة نوبل في الأدب فالأرجح أنهم نادرون القراء الذي يعرفون شيئا عنه في حضرموت التي كرّس لها أول كتبه: (مدينة المهاجرين: حضرموت)، نشرته (الدار القومية للطباعة والنشر)، في مطلع الستينات ضمن سلسلة (كتب قومية).
ولد الصحفي والروائي والقاص المصري محمد جبريل في الاسكندرية في 17 فبراير 1938، وتجاوزت مؤلفاته اليوم الخمسين كتابا. وقد ترك له أبوه المحاسب والمترجم مكتبته الخاصة المليئة بالكتب العربية والأجنبية، وبينها كثير من كتب الرحلات التي قام بها الغربيون إلى مختلف أصقاع الوطن العربي ومنها حضرموت. وقد قرأ محمد جبريل كل ما في مكتبة أبيه قبل أن يبدأ حياته العملية سنة 1959 محررا في صحيفة (الجمهورية) المصرية، مع الصحفي الراحل رشدى صالح، وينتقل للعمل في صحيفة (المساء). وفي الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 عمل محمد جبريل مديرا لتحرير مجلة (الإصلاح الاجتماعي) الشهرية، وكانت تعنى بالقضايا الثقافية. وعمل كذلك خبيرا بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير، ورئيسا لتحرير صحيفة (الوطن) العمانية، تسع سنوات. واليوم لا يزال يعمل رئيسا للقسم الثقافي بصحيفة (المساء) المصرية.
ومن المؤكد أيضا أن محمد جبريل لم يزر أبدا حضرموت، وقد وضع كتابه اعتمادا على ما قدمه له من معلومات عدد من الصحفيين الحضارم، وما قرأه في كتب الرحالة الغربيين الذين زاروا حضرموت، وقليل من كتب التراث العربي، ومجموعة من الوثائق وفرها له مكتب الجنوب العربي بالقاهرة، وقد شكر المؤلف هذا المكتب في خاتمة قائمة المراجع، قائلا: “يوجه المؤلف شكره العميق إلى الأخوة أعضاء مكتب الجنوب العربي بالقاهرة على ما بذلوه من مساعدات قيمة لتسهيل حصوله على معظم هذه المراجع”. ص105
وفي الواقع كرست معظم فصول كتاب (مدينة المهاجرين، حضرموت) لتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة في حضرموت وعدن ومحميات بشكل عام في السنتين الأولى والثانية من ستينيات القرن الماضي، وركز بشكل خاص على قضايا الاتحاد الفدرالي بين محميات عدن والصحافة والهجرة وقصة البترول و(ثورة البادية).
ففي الفصل المكرس للصحافة في حضرموت (والصحافة أيضا)، تناول محمد جبريل بالتفصيل الطرق التي كانت الحكومة في السلطنة القعيطية تستخدمها لمراقبة الصحافة وقمع الصحفيين. ويتبيّن لنا من خلال محتوى هذا الفصل أن الصحفيين الحضارم، وعلى رأسهم حسين بن محمد البار صاحب صحيفة (الرائد)، وعلى بافقيه رئيس تحرير صحيفة (الرأي العام)، هم الذين قدموا لمحمد جبريل معظم مواد كتابه عن الحياة المعاصرة في حضرموت. وقد بدأ الفصل على النحو الآتي (ص32): “في كل البلاد تصدر الصحف والمجلات. وفي حضرموت أيضا، تصدر الصحف والمجلات. ولكن ما يصدر في حضرموت وفي الجنوب العربي، من صحف ومجلات ودوريات أنما هو صدى لما تريد السلطات البريطانية في المنطقة التعبير عنه. ومعظم هذه الصحف والدوريات تُطبع بالفعل في مطابع تشرف عليها السلطات البريطانية، وتراجع مواد كل صحيفة جيدا، فيباح الحديث عن الحرية والقومية العربية، لكن جملة واحدة عن مشاكل المنطقة السياسية والاستعمار الذي يشدد قبضته على كل شبر، أشياء محضور نشرها.
jebreel
إن القارئ لصحف الجنوب العربي قد يجد فيها كل شيء إلا الجنوب نفسه! ولا أعني بهذا أن الصحفيين الشرفاء أسطورة أخرى تضاف إلى مئات الأساطير التي يزخر بها تاريخ حضرموت، فقد كان مصدري الوحيد لهذه الدراسة -أو يكاد- كتابات موضوعية صريحة لصحفيين شرفاء. في 27 فبراير 1961 كتب حسين البار، رئيس تحرير (الرئد) الحضرمية مقالا ينتقد فيه الأوضاع داخل حضرموت. وكان من سوء حظ (الرائد) أن ترخيصها السنوي انتهى فور نشر المقال. ورفضت السلطات الحكومة بالطبع تجديد الترخيص، لكن حسين البار بذل محاولات مضنية لإقناع وزير السلطنة بأنه لم يقصد بكتابة المقال أي إساءة للحكومة. ودعا وزير السلطنة مجلس السلطان بالمكلا للاجتماع لدراسة المقال، واستمر الاجتماع ليلتين متتاليتين، وأخيرا تسلم رئيس التحرير (الرائد) أمرا بتجديد الصحيفة لسنة كاملة وأرفق بترخيص التجديد إنذارا من وزير السلطنة جاء فيه (حضرة المكرم السيد حسين بن محمد البار رئيس تحرير صحيفة (الرائد) بالمكلا. بعد التحية، إن ما نشر في العد (20) من صحيفتكم (الرائد) بتاريخ 12 رمضان 1380هـ الموافق 27 فبراير 1961م، فيه إشارة إلى (حادثة القصر المعروفة) التي تتألم الحكومة وتأسف لما وقع فيها، ونرى أن محتويات تلك النبذة لا تخدم في الوقت الراهن إلا غرضا هداما، وتدعو إلى الإخلال بالأمن والفوضى في البلاد، وبث روح النقمة من المواطنين على بعضهم البعض، وأن نشر مثل تلك التعليقات تعتبره الحكومة تصرفا بعيد كل البعد عن روح المسؤولية التي يجب أن تتوفر في أي صحيفة تدعي لنفسها –بل ويجب عليها- خدمة الصالح العام في حدود النظام والقانون المرعية. وإنكم بنشركم تلك النبذة خالفتم نصوص خطابنا رقم 2-126-30 المؤرخ في 2 شعبان 1337 الموافق 11 مارس 1959 الذي حمل إليكم موافقة صاحب العظمة لصحيفتكم المذكورة أن تصدر، وقد رأينا اعطاءكم فرصة أخرى تلتزمون فيها بتأدية واجبات الصحفي المسؤول، ومع ذلك نلفت نظركم إلى احترام محتويات مكتوبنا المشار إليه في الفقرة الثانية من هذا الخطاب وننصحكم بتجنب كل ما من شأنه أن يعتبر بنظر الحكومة داعيا إلى الهدم أو النقد الخالي من التجرد بأي صورة كانت وتحتفظ الحكومة لنفسها بحق اتخاذ ما تراه من الخطوات ضدكم في أي وقت إذا أبت صحيفتكم إلا عدم التزام الاشتراطات التي احتواها خطابنا المشار إليه في الفقرة الثانية من هذا المكتوب، وهو المصرح لكم بإصدار صحيفتكم المشار إليها. وزير السلطنة القعيطية).
ويتناول محمد جبريل في الفصل نفسه قضية صحفية أخرى كان بطلها الصحفي الحضرمي علي بافقيه، الذي كان يعمل مراسلا لصحيفة (اليقظة) في عدن، واستطاع أن يتحصل من السلطات في المكلا على ترخيص إصدار صحيفة أسبوعية (الرأي العام). لكن الحكومة ألغت الترخيص حينما قام علي بافقيه بنشر مقالا في صحيفة (اليقظة) عن الصراع الدامي بين السلطنة القعيطية والبادية، ويقدم محمد جبريل الحادثة على النحو الآتي: “كان الصحفي علي بافقيه يمد جريدة (اليقظة) العدنية بتطورات الأحداث أولا بأول، وفوجئ بتقديمه للمحاكمة بتهمة التحريض على الثورة. ويبدو أن حكومة المكلا كانت على ثقة تامة بثبوت التهمة المنسوبة إليه، فقد أرسلت له إنذارا قبل بدء المحاكمة جاء فيه: اتضح من الأنباء الكاذبة التي تعمدتم نشرها في الصحف ضد العمليات العسكرية لحفظ الأمن في هذه البلاد أنكم غير جديرين بحمل تصريح حكومي لإصدار صحيفة في الدولة القعيطية. وبما أظهرتم من عدم مسؤولية في نشركم تعليقات وأنباء هدامة تضر بالمصلحة العامة، وعليه قرر صاحب العظمة السلطان سحب التصريح المعطى لكم تحت رقم 7-13-30، المؤرخ 8 ذو القعدة 1980هـ الموافق 23 أبريل 1961م لإصدار الصحيفة الأسبوعية التي تعتزمون إصدارها باسم (الرأي العام)، وعليه فأن هذا التصريح يعتبر لاغيا من اليوم”. ص34 ويعلق محمد جبريل: “ومن الغريب أن حكومة المكلا ألغت التصريح بصدور جريدة (الرأي العام) قبل ابتدأ المحاكمة مما يؤكد تصميمها على معاقبة بافقيه، وإلا فما معنى أن تكون أسباب سحب التصريح هي نفسها أسس التهم الموجه إليه؟”
ويخصص محمد جبريل فصلا من كتابه (مدينة المهاجرين)، سماه (خارج الحدود) للحديث عن الحضارم في المهجر. وقد تحدث فيه عن هجرة الحضارم الداخلية إلى عدن وهجرتهم إلى الخارج، معتمدا على بعض المعلومات التي استقاها من الصحفيين الحضارم، وما قرأه في كتاب (كنوز مدينة سبأ). ونقل من هذا الكتاب بعض ما قاله مؤلفه ويندل فليبس، مثل: “نتيجةً لامتزاج الدم بين حضرموت بصفة خاصة وبين سكان جزر الهند الشرقية أصبح يطلق على حضرموت اسم: بلاد الأميرات الجاويات، نسبة إلى جاوا”. ص35. واختتم محمد جبريل هذا الفصل بصرخة مهاجر حضرمي يشتكي من جور الضرائب التي تفرضها كانت السلطنتان القعيطية والكثيرية تفرضها على المغتربين، وهذا نصها41: “سادتي، ما كنت أحبذ نشر هذا الخطاب لولا تلك الظروف القاهرة التي اضطرتني إلى ذلك. أني أتقدم إليكم، بصفتي أحد أبناء شعبكم المنكوب، بهذه النصيحة. فأنتم تعلمون ما وصلت إليه حال الحضارم اليوم، وليس بخاف عنكم ما يقاسونه من فقر وجوع ومرض فتاك وجهل وهجرة إلى الخارج، وأن معظم أبناء شعبنا العزيز قد غادروا حضرموت لأسباب قاهرة؛ هي عدم استطاعتهم الحصول على لقمة العيش في حضرموت، وجور المعشرات –الضرائب- التي تفرض حتى على الحاجات الاستهلاكية الضرورية. أما كفانا نحن الذين غادرنا حضرموت ما نقاسيه في المهاجر من تعب وشقاء وراء لقمة العيش حتى لا يكاد الواحد يعود إلى حضرموت إلا وترهقونه بالمعشرات الجائرة وضريبة الرأس وما شابهها؟ واليوم وأنتم تعلمون أن غالبية أبناء حضرموت في المملكة العربية السعودية قد رجعوا بخفي حنين لعدم تيسر الأعمال هناك، فهل لي أن آمل منكم أن تهيئوا لهؤلاء ولجميع أفراد شعبنا العزيز سبل العيش حتى لا يغادروا بلادهم؟ إنني آمل، وكلي ثقة بأنكم ستحققون كل ما نريده منكم”.
ويتضمن الكتاب –كما ذكرنا – فصلا طويلا عن قصة التنقيب في حضرموت في منتصف القرن الماضي : (حدوتة اسمها البترول، ص68-93). وتحدث فيه عن: (الاستعمار البريطاني وبترول الجنوب العربي، مناطق البترول في الجنوب العربي، شركات الامتياز، مصافي البترول في عدن، ميناء الغيضة، الوضع القانوني، شروع في الاستيلاء على البترول، مخاطر قبول الاتفاقيات، موقف الشعب العربي من الاتفاقيات، موقف الإنجليز وتحايلهم على السلاطين، الاتحاد الفدرالي والبترول، حكم الإرهاب، الشعب العربي في الجنوب يهيب ويستنجد، بداية المأساة، صوت الشعب، فصل من القصة، مسخرة اسمها الشعب، مباحثات أخرى، نتائج عكسية). هذا وقد قام الصحفي الحضرمي هشام علي فرقز في عام 2013 بنشر جزء بسيط من هذا الفصل (حدوتة اسمها البترول) في مقال قارن فيه الوضع (البترولي) في حضرموت في منتصف القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.
ومن البديهي أن يعطي محمد جبريل اهتماما كبيرا في كتابه التاريخي بالحياة السياسية في حضرموت واتحاد الجنوب العربي بشكل عام. وقد تحدث باختصار عن الأحزاب السياسية ومطالبها، وألحق بكتابه نص معاهدة عدن بين السلطانين الكثيري والقعيطي عام 1919، وكذلك (نص المشروع البريطاني لتركيز إدارة الحكومات في محميات عدن الشرقية). ومن المؤكد أن البعد السياسي لكتاب محمد جبريل التاريخي عن حضرموت يبرز بجلاء في صفحة المقدمة التي قال فيها: “الحرب السافرة التي يشنها الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي وصلت الآن إلى مرحلة أقل ما توصف به أنها بالغة الخطورة. فقد أعلِن في عدن أن السلطنة الواحدية قد انضمت رسميا إلى الاتحاد الفدرالي، وأن السلطات البريطانية تجري الآن مباحثات مع المسؤولين في السلطنة الكثيرية للاتفاق على أسس الانضمام. كما تُبذَل محاولات أخرى لضم السلطنة القعيطية إلى الاتحاد الفدرالي بعد إجراء تعديلات دستورية في هذه السلطنة. وتدور الآن المباحثات المسماة (مباحثات علاقة أوثق) بين وزراء الاتحاد الفدرالي ووزراء حكومة عدن، وتهدف هذه الباحثات –كما يقول البيان الرسمي- إلى تنسيق الجهود والمقترحات والآراء والتوصل إلى تقريب وجهات النظر بين الجانبين: الاتحادي والعدني. أما الهدف الحقيقي لهذه المباحثات فهو اعطاء وعد بالاستقلال وتعديل معاهدة الاتحاد الفدرالي، تمهيدا لإقامة دولة الجنوب العربي الفدرالية التي تضم عدن والمحميات الغربية والشرقية ومنح الدولة الجديدة استقلالا زائفا تتولى الحكومة البريطانية تنفيذه والإشراف عليه. إن حضرموت –والجنوب العربي كله- يعيش الآن في قمة الأحداث، والثورة تسري في كل مدنها وقراها رغم البطش والمؤامرات والدسائس والاتحادات الزائفة. وغدا ينتصر الحق. ويعود الجنوب العربي عربيا لأصحابه”. ص5.