في وسط حيّ “الغجر” ببلغاريا
حضرموت حُرّة/ بقلم: عبدالعزيز محمد قاسم
إعلامي وكاتب ومؤلف سعودي
أتذكّر أنني العام الماضي، وفي ساحة مدينة “بريزرن” في كوسوفا؛ رأيت مجموعة من المتسوّلين، وبهيئات رثة متسخة، وسُحنٍ داكنة، والمناديل على رؤوس النساء، وانسابت ذات الصورة من ذاكرتي، لهيئاتهم في تركيا والأردن ولبنان وفي جمهوريات آسيا الوسطى كذلك،
وقلت مباشرة لرفيقي الكوسوفي: هل هؤلاء غجر؟ فانذهل مني، وقال: كيف عرفتهم؟ أجبته من هيئتهم وبشرتهم ومهنتهم، فهذا الشكل يمايزهم وأهل المدينة في كل البلدان التي رأيتهم فيها.
.
في تجوالي هذا العام في بلغاريا، مررنا ومرافقي بيرم أحمد، وهو أحد خريجي جامعاتنا السعودية من الطلبة البلغار، بمدينة “بلوفديف”، وهي ثاني أكبر وأهم مدن بلغاريا بعد العاصمة “صوفيا”، في طريقنا لمدينته “مَدَان” بأعلى جبال “رُودوبا” الهائلة، أشار فجأة إلى حيّ بعيد، وقال بأن غجراً يقطنون هنا، وأنهم غجرٌ مسلمون، وعاد لقيادة السيارة غير آبه، ولم يدرِ أنه ضغط على زرّ الإعلامي عندي، فرجوته أن يعدّل مساره، ويتجه لحيّ الغجر هذا، وقد تملّكني الفضول الكامل لمعرفة طرائق معيشتهم، وأحوالهم، وطرق تعاملهم، وقد دهمتني بقوة مقاطع هوليود في أفلامها عنهم.
.
الغجر موجودون بكثرة في منطقة البلقان والمجر ورومانيا وكرواتيا، ووقتما رأيتهم في كوسوفا العام الماضي، قال لي مرافقي وقتذاك الشيخ محي الدين بأن الغجر في كوسوفا مسلمون، ولكن في صربيا وكرواتيا وبقية المناطق هناك يكونون أرثوذكس وكاثوليك، بحسب البلد الذي يعيشون فيه، وأنهم منفصلون عن المجتمع، ولا نتزوج منهم ولا نزوّجهم، ولهم لغة خاصة أقرب للغة الأردية في الهند وباكستان، وينقسمون لقسمين: ما تطلقون عليهم في البلاد العربية اسم “نَوَر”، وهم متعلمون وتجار وأكاديميون ولهم منازل. أما القسم الثاني: “غجر”، فهؤلاء يمتهنون التسوّل والشعوذة والسحر والسرقة، وبقية المهن الوضيعة.
.
تذكرتُ أن تراثنا العربي، خصوصا الشعري منه، مليء بوصفهم، وأنهم في الوجدان العربي أيضاً نموذجٌ للتشرّد وعدم العناية بالمظهر، والشعوذة والسحر، ربما الشاعر الشهير نزار قباني عندما عاتب حبيبته، لخّص لنا رؤية العرب للغجر هؤلاء:
.
يروّعني أن تُصبحي غجريةً تنوءُ يَداها بالأساورِ والحُلى
تجولينَ في ليلِ الأزقةِ.. هرّةً وجوديةً.. ليستْ تُثير التخيّلا
.
صديقي البلغاري “بيرم” متوجّس من الدخول للحيّ، وأنا أدفعه دفعاً أن ندخل الحيّ، وهو يقول لي: هل تعلم لو أنني أوقفنا السيارة، لعدنا لها بعد دقائق وقد سُرق ما بداخلها، أو أن أحدا منهم تفرّس بنا ولم نعجبه؛ ستجد نفسك فجأة محاطاً بثلاثين أو أربعين غجرياً، لا يسألون صديقهم عن السبب، ويهجمون عليك ويجرّدونك من كل شيء بعد ضربك وركلك.. ما رأيك أن تلتقط بعض الصور من هنا، ونمضي في سبيلنا؟!
.
في مثل هاته المواقف، لو كنتُ في ميعة الشباب، لركبت رأسي، ورفضت وأصررت على الدخول، بيد أنني تمهّلت، سيما أنني غريبٌ في بلاد بعيدة، ولو علموا أيضاً أنني سعودي، لزاد الأمر تشويقاً عليهم، فاستسلمتُ وبلعتُ العافية وفضولي الإعلامي ومعهما الشجاعة، فالجبن في مثل هاته المواطن حكمة.. هكذا أقنعت نفسي..
.
وبينا نحن على هذه الحال، متوقفون خارج الحي، ومزمعون التحرّك لوجهتنا الأصل؛ إذا بشابٍ يزمرُ لنا ببوق سيارته وهو يبتسم، ويسلّم على مرافقي “بيرم”، ويتكلم معه بالبلغارية هنيهات، ويمضي في حاله، لأسأل مرافقي مباشرة عنه، فأجابني بأن هذا أحد الطلبة الغجر الذين درسوا عندهم القرآن الكريم في مدينتهم، بيد أنه لم يستمر سوى أسابيع قليلة، فمن عاداتهم عدم الالتزام والضجر السريع. صحتُ به: ألحقه، هداك الله، وليكن كفيلنا وضامننا في دخول الحي.
.
وفعلاً، رآها فكرة مناسبة، وانطلقنا في أثره لندركه بعد مراحل، ونزل من السيارة ليصافحنا، وأبلغه مرافقي “بيرم” بأننا نود التجوّل والتصوير في حيّهم الكبير، ورحب بنا، وقال اتبعوني، حتى وصلنا في منتصف الحي، وأشار لنا بركن السيارة أمام جمهرةِ من في السوق من قومه، واعتذر عن مرافقتنا بسبب أن أخاه الصغير معه بالسيارة، وقد اختتن للتو، فهم غجرٌ مسلمون. ذهبت للصبي في عمر العاشرة وسلّمت عليه، وأهديته تذكاراً للكعبة المشرّفة، فرح بها -ووالدته المشفقة- رغم ألم الختان الظاهر في وجهه.
.
اطمأن هنا كثيراً “بيرم” وبتنا نتجوّل، ونلتقط الصور دون خوف، في تلكم الشوارع والأزقة المتسخة التي تنفر النفس منها، والموسيقى الصاخبة تصدح من كل مكان، والروائح الكريهة التي تنبعث من هنا وهناك طيلة تجوالك، وقال مرافقي بأن حياتهم هكذا، يستمتعون فقط باليوم، يأكلون ويشربون ويعاقرون الشراب في الليل ويرقصون، ولا يفكرون أبداً في الغد، بل حتى أبناؤهم لا يتعلمون، ويهربون من المدارس، وقلة منهم لديه الشهادة الثانوية، وهؤلاء الذين تراهم متمدّنون نوعاً ما، وإلا من عادة الغجر ألا يستقرّوا أبدا، فهم في ترحال دائم.
.
كتبت عن الغجر في كتابي الجديد “14 يوماً في كوسوفا”، وقلت بأصولهم، وأن الغجر جماعات من الرحّل، تسكن الخيام، وتتنقل في أرجاء البلاد أو الدول، من مكان إلى آخر استجابة لحاجة نفسية موروثة أو لمقتضيات العيش، وتفضل إبقاء حراكها ضمن حدود الإقليم المكّون من دولة أو أكثر مما اختارته منزلاً لها، إلا إذا اضطرت إلى الهجرة بالاضطهاد والطّرد، أو بسببٍ لم يُفصح عنه.
.
بيد أن قلّةً من الغجر، تأثروا بأنماط عيش الشعوب التي ساكنوها وبوسائل المدنيَّة، فتحوّلوا إلى الحياة الحضرية وهجروا عيش الترحال، وسكنوا البيوت في المدن والقرى، واحترفوا حرَف أهلها ولكنهم بقوا على اتصال وثيق ببعض تقاليدهم الموروثة عن هجرتهم الأولى، وهو اتصال مقرون بالحنين والتوق إلى عالمهم القديم المشحون بالعاطفة، وهناك من يقول إن الذين استقروا هم جماعات طُردت من الجماعة الغجرية الكبيرة في وقت ما لخروجها على قواعد العُرف والتقاليد السائدة بينهم.
.
أكثر الغجر أميّون، وعامتهم ذوو مظهر خارجي متشابه، يتّسم بالبشرة الداكنة المائلة إلى السواد تدرّجاً من اللون الزيتي إلى البني، في حين أن بينهم مجموعات قليلة ليست كذلك، وليس للغجر ملابس قومية، ولا تختلف ملابسهم عما يُستعمل في بلاد عيشهم، وكثيرٌ منها مستعمَلٌ أو مُسْتَجْدى، ونساؤهم تلبس ألبسة فضفاضة مزركشة لها طابع مميز، وكثيرون منهم يهتمّون بالحلي وأنواع الزينة، وهو أمر يتصل باهتمامهم الأساسي بالرقص والغناء، ومعيشتهم بسيطة جداً بساطة الحياة في مساكنهم، وهم يسكنون الأكواخ والكهوف وغالباً الخيام، لأنها سهلة النّصب والفك والتحميل، وتقسم بعوازل خفيفة ما يعادل غرفتين أو ثلاثاً بحسب عدد الزوجات والأولاد. وتحوي أثاثاً متواضعاً من البسط والفرش والمساند، وأدواتهم المنزلية قليلة وطعامهم خشن، ويؤثرون أكل الدجاج الذي أتقن كثير منهم سرقته، بيد أن بعضا منهم استقرّ في ضواحٍ بالمدن التي يعيشون فيها، كحال هؤلاء الذين أنا في حيّهم.