ثقافة

مذكرات ثعبان (قصة قصير)


حضرموت حُرّة/ علوي بن محمود


كانت قريتنا ككل قرى هذا العالم، ولم تكن أيضا جزءًا من هذا العالم، فقد كان لها عالمها الخاص بها، كنت فيها مجرد ثعبان مل من طول الزمان عليه، يأكل مرة في الشهر بدلا من مرة في الأسبوع ككل الثعابين من فصيلتي هربا من الاحتكاك بالناس وبهائمهم، وأقضي أغلب الشهر في سكون لتوفير الطاقة لقلة طعامي تاركا فقط أذناي مفتوحة للأحاديث التي تطرقها وأنا في وكري ومكمني وجحري الذي يعصمني، وأمد لساني بين وقت وآخر أتحسس الروائح ولعل حاسة الذوق الشمي ليست متوفرة في أولئك البشر وبهائمهم؛ لذا فإن دماغي يعمل بطريقة مختلفة أن تشم بلسانك وتتذوق رائحة الكلام والطعم الخفي في طريقة التقديم البلاغية والجمل الاعتراضية ذلك شي خاص بالثعابين، ولعل طول جوعي ولبودي في جحري قد منحني وقتا للتفكير لم يكن متوفرا لغيري.

لم يشدني الكثير في قريتنا ولم يكن يعنيني ما يحدث فيها، لكن آه لو كان بإمكان الثعبان أن يغمض أذنيه كما يغمض عينيه، وآه لو كان يقدر أن يفتح عقول الآخرين كما يفتح فكيه ليأكل فريسة أكبر من حجمه، هل يمكن تعليم أكل البيضة بقشرتها ولفظ القشرة لاحقا، لماذا يتعنى أولئك بغلي البيض وتقشيره قبل أكله، وعلى كلٍّ فقد سخر لهم الدجاج بيضه الوفير ونجت بيوض الثعابين من الأكلة مفترسي البيض المغلي.

يمكن أن أختصر قريتنا بكائنين فقط لهم غالبية الحضور والظهور والشهور البشر الذي أشك بنسبتهم للأوادم، وحميرهم التي يصلني نهيقها الصاخب مهما عمقت جحري في باطن الأرض، آخ من ذاك النهيق يصم أذناي، وآخ يا أذناي لو كنت كلساني تلتقطين الرائحة ولا تزكم أنفك مهما كانت كريهة.

البشر لا يعلمون من لغة الحمير إلا أنها تنهق إذا رأت شيطانًا، ومربي الحمير يعرف أن حماره يحييه إذا جاء إلى مربطه متعشما علفًا وماء، ويعلم نهيق الجوع من نهيق الشبع، ونهيق رؤية الأتان، ونهيق الأتان أقل من نهيق الحمار، ولا أدري لمَ يصف البشر إناثهم بالثرثرة ولديهم إذاعات تثرثر ليل نهار بما ينفع ولا ينفع في أغلب الأحيان، والكذب فيها زي شرب الماء ناسيا في نهار رمضان.

كانت قريتنا على حيد مرتفع، وكانت الأسواق هناك في أسفل الوادي، ومن ثم كان الحكم القائل حمار قرية النقعين ما يرتاح طالع محمل نازل محمل وإلا ما فائدة تربية حمار في تل مرتفع إذا ما شل الثقيل، ربما هذا ما يجعل البشر يربون الحمير ويتحملون صوت نهيقها العالي ورؤيتها للشياطين.

غير أن هناك حمارًا واحدًا لم ينطبق عليه حكم قرية النقعين؛ هذا لأنه كان مدللا يأكل خيرة العلف ويشرب أنقى الماء وينهق بأعلى طبقات الصوت الحميرية الممكنة، وكان نهيقه نهيق الشبع والبطر.

ذلك أن صاحبه ورث أمه الأتان من جده، وجده اشتراها بمال ورثه من جد جده لذلك حلف صاحب الحمار المبرور بأن لا يحمل حماره، ويطعمه خير الطعام، ويفلت له العنان مع كل أتان، ولأنه شابع قابع مانع أصبحت أكثر الجحوش في قريتنا من ذريته النبيلة، لكن لم يكن لها أي من حظه العظيم، وعموما الحمير هي مجرد حمير وبهائم إذا بلغت نسيت طفولتها ولم تعرف لنفسها إلا نفسها، وتنسى من أمها ومن أبيها وليست مثلنا نحن الثعابين إذا بلغنا نفينا من الأرض إلى أقصى أقصاها وربما بعدها لا نلتقي بأم ولا أخ ولا أخت إلى آخر العمر.

وفي يوم لا ينسى تناهقت حمير النقعين، تناهقت طوال الليل كما لم يحدث من قبل، ورغم ما يقال عن التكيف والتعود إلا أن النهيق يظل منكرا نكيرا مهما ألفته وتعودت عليه.

ورغما عني سمعت ما دار بين الناهقات والناهقين، ذلك أن الحمير بآذانها المركزة وذهنها المتنح وعنادها المشهود وذكائها غير المجحود قررت أن تقلد البشر، وتختار لها شيخا يحكمها ولا أدري ما حاجة الحمير بالشيخ والمشيخة، فكل حياة الحمير قائمه على أصحابها يربطونها متى شاءوا ويطلقونها متى شاءوا ويحملوا ظهورها.

لكن من يستطيع أن يناقش حمارا إذا قرر أمرا ونهق بعلو الصوت ربما يستطيع البشر إسكات الراديو بإطفائه لكنهم للاسف لا يستطعيون إسكات حمار.

تناهقت الحمير واشتد نقاشها في اختيار الشيخ بعضهم أراده أميرا وبعضهم شيخا وآخرين قالوا عاقلا وآخرون مديرا ورئيسا وعميسا ووكيسا ووطيسا ودويشا وووو … وعلا الخلاف في مسمى هذا الذي يرمون انتخابه كبيرا لهم غير أن كل الحمير الكادحة والشغيلة لم تختلف على شخص الكبير وأجمعت الأقوال والنهقات على الحمار المبارك النبيل الذي عمره ما حمل حمل، قالوا إنه ذو حظ عظيم، وقالوا إنه ولي من أولياء لا يحزنون، وقالوا أمه ولدته في المسجد وقالوا وقالوا.


وهذا الثعبان يسمع وما يبلغ فحيح ثعبان خفيض أمام كل ذلك النهيق الجماعي.

ولما تبين لي أن الحمير مصممة على ما ذهبت إليه وكان كل ما أخشاه أن يكثر نهيقها كل ليله بالشكوى من الحمل والعمل وقلة العلف لحمارها الكبير والمستريح والذي أشك أنه سيفهم من أول نهقة هذه الشكاوي مما سيستدعي المزيد والمزيد من النهيق والليالي الصاخبة مما سيعكر ذهني المتعود على تذوق الرائحه من لساني.

لهذا قررت وتهورت على غير عادتي وطبيعتي في العزلة والتوحد.

وقبل أن يشرق الفجر زحفت مستترا بالظلام داعيا أن لا يلمحني بوم أو غيره من هواة لحم الثعبان زحفت إلى القرية ودخلت الحضيرة من ثقب في سقفها التي توشك أن تصبح مقرا لكبير الحمير، كان الحمار واقفا فقليل ما يجلس الحمار ويسكن، يظل واقفا متحفزا وكنت أخشى حوافره وعضاته الأليمة، لم يمكنني أن ألبد طويلا فلعل الحمار يلتقط رائحتي وينهق مجلجلا ويفضحني عند البشر.

لكن الحمار الزين يبدو أنه انتشى من أحاديث الحمير حول تنصيبه وتتويجه فانهبد جالسا واسترخى في اطمئنان تحسست الريح والروائح وحرصت أن لا تكشفني وزحفت خلسة من مكمني ولدغت الحمار في رجله بسم وفرته طوال شهر كامل، وفررت بسرعة البرق قبل أن تدركني رفسه من حافره.

وعدت إلى جحري منهكا أستجمع طاقتي التي ضيعتها في لدغ الحمار، ربما أحتاج أسبوع راحة لا تمكن من الصيد مجددا والحمدلله اكتفت الحمير بثلاثه أيام من العزاء النهيقي والترحم على مرحومها والحمدلله طارت من عقولها فكرة اختيار شيخ واكتفت في الليالي  بتوصية بعضها البعض من لدغات الثعابين وألا تجلس وتغفل قدر المستطاع وقللت من نهيقها بشكل لاحظه حتى البشر لأن بالها مشغول تترقب ثعبان يلدغها وقررت التقليل من الكلام والتركيز على ركز أذونها وإصاخة السمع.

وهكذا عم السلام والسكون المصون في جحري الحنون ولم أندم قط على سمي الثمين الذي أهرقته في دم حمار .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى