ثقافة

مدن البحر… 12

حضرموت حُرّة/ بقلم: محمد عمر بحاح

منذ زمن بعيد لم نلتق …
فقط، عرفت الآن ما لم يكن لي أن أدركه في عمري ذاك قبل أربع وستين سنة .أنت ظللتِ صبية ، وأنا صرت هذا الشيخ الذي كبر في العمر عتيا ولا يزال يعتقد نفسه ذلك الطفل!
كلما تذكرتك عدت إلى الزيارة الأولى
مع أبي، الانطباع الأول، النظرة الأولى، اللقاء الأول، التفاصيل الصغيرة التي لم تتغير. تذكرتك بحرا رائعا، شاطئا جميلا، قبة لولي،، وحُمسة ( سلحفاة) وديعة تخرج من المحيط ليلا وتعود إليه بعد أن تضع بيوضها في رماله البيضاء الناعمة ، ثم تزحف صغارها إلى نفس المحيط بعد أن تفقس، تخطو أولى خطواتها نحو البحر الذي جاءت منه أمهاتها.. كلما تذكرتك أعود إلى تلك اللحظة، الصورة حتى لا أفقد حنيني البعيد إليك .
مرت تحت الجسر مياه كثيرة مذ ذاك كما يقال. كبرتُ في العمر ،أكثر من ستين سنة على مهل ، أو دفعة واحدة ، لا يهم .. المهم أنني كبرت والسلام ، وبقيتِ تلك الفاتنة كما رأيتك أول مرة !
تمنيت أن أعود طفلا، وأن ألتقيك مرة أخرى ، لكن المسافات بيننا بعيدة، وكذلك فارق العمر ..
لماذا لم تكبري مثلي في العمر ؟..
كيف تعيشين كل هذا الزمن ولا يتقدم بك العمر ، ومع ذلك تزدادين جمالا، شبابا …كيف ؟..
ليس هذا فقط سوى اختزال للزمن الذي عرفتك فيه. أنت أكبر من ذلك بكثير ،عمرك من عمر الخليقة ، مُذ قال الخالق العظيم : كوني ، فكنتِ من أجمل بحار العالم .
أعتقد أن الحب يصنع المستحيل ، لكن وحده لا يقدر على رسم صورة كافية عن المحبوب. ولا ما أنت عليه من جمال وروعة وتنوع وربما أن لغتي تعجز عن وصفك كما يجب ، لكن لغة البحث بإمكانها أن ترسم لك صورة شاملة أدق مما تمكنه كلمات رومانسية..
لغة الحب ليس لها حسابات ،ولغة البحث العلمي لها حساباتها ، فلنقرأ لغة الباحث طاهر ناصر المشطي التي سبق وجربناها في حلقتين سابقتين عن شرمة في بحثه ( شرْمَةمنتجع حضرموت السياحي ومحمية لنظام حيوي فريد ونافذة المشقاص التاريخية على المحيط الهندي) :
(2)

“تبلغ مساحة منطقة شرمة حوالي 27 كيلومتر مربع لتشمل 2700 هكتار تقريباً، ويبلغ طول شواطئها 18 كلم تقريبا بعمق بحري بين (1 -2) كلم تقريبا.
وساحل شرمة يمتلك من المواصفات البيولوجية والطبيعية التي تدخله ضمن معايير إطار اتفاقية حماية التراث العالمي الطبيعي والثقافي التي تبنتها منظمة اليونسكو عام 1972م، وقد وقعت على الاتفاقية المذكورة أكثر من 146 دولة، وصادقت بلادنا عليها في 7 / 10 / 1980م، ومن المعايير التي يتفق فيها ساحل شرمة مع بنود الاتفاقية:

‌أ. يحتوي على مظاهر طبيعية ومناطق ذات جمال طبيعي استثنائي.
ب. تحتوي على حوائل طبيعية مهمة ذوات مغزى لصون التنوع الحيوي بما في ذلك تلك التي تحتوي على الأنواع المهددة ذات القيمة العالمية من وجهة النظر العلمية أو وجهة نظر الصون .
والجذير بالذكر أن الموقع الذي يحدد واحداً فقط من هذه المعايير السابقة يمكن أن يضم إلى القائمة العالمية، بالإضافة إلى مكانتها كتراث ثقافي سياحي.
تتوافر في منطقة شرمة مقومات سياحية عديدة، تجعلها في صدارة الأماكن التي يتوافد إليها العديد من السيَّاح من داخل الجمهورية ومن خارجها. فهي تحوي البحر الهادئ من الأمواج، والشواطئ ذات الرمال البيضاء النقية المنبسطة والتي تزينها المظاهر الجيومرفولوجية (علم دراسة تضاريس الأرض ) الناتجة عن نحت الأمواج للصخور المرصعة بالأصداف، والتي تبرز من خلال سطحها نتوءات صخرية قاومت الموج لفترة طويلة من الزمن مكونة المسلات والموائد الصخرية والكهوف والأقواس، وغيرها من الأشكال
الجيومرفولوجية التي ترسم للناظر لوحة فنية رائعة بمناظر طبيعية خلابة.
كما تحتوي شرمة على تنوع حيوي ومجتمع فريد من الطيور المتنوعة، والحيوانات البرية والبحرية الفريدة والنادرة، وخاصة السلاحف الخضراء ومنقارية الصقر المهددة بالانقراض .
بالإضافة إلى هذا وذاك فهي أحد موانئ حضرموت القديمة وبوابتها على المحيط الهندي، حيث تحتوي على آثار من عصور ما قبل التاريخ فترة حضارة جنوب الجزيرة العربية العصر الجاهلي والإسلامي
، أهمها : آثار مدينة الميناء وأسوارها ومسجدها، حيث كان ميناء شرمة في صدر الإسلام ثاني موانئ حضرموت بعد ميناء الشحر . ( وقد تحدث عنه الباحث المشطي في حلقة سابقة ).
كل هذه الأشياء اجتمعت في مكان واحد. فرسمت على أرض شرمة صورة فنية رائعة، ومجسمة ذات أبعاد ثلاثة: البعد السياحي الجغرافي كمنتجع سياحي، والبعد الحيوي الطبيعي كمحمية طبيعية، والبعد التاريخي كموقع أثري وتاريخي هام، لتكتمل لنا الصورة المجسمة ثلاثية الأبعاد لـــ (منتجع، ومحمية، وميناء) شرمة.
(3)
منتجع سياحي من الدرجة الأولى:
“عند زيارتك لمنطقة شرمة ستشعر بانتقالك إلى عالم فريد من الخيال، فالموقع يتميز بخصائص فريدة من نوعها، قلما تجدها في مكان آخر، ومن أهم هذه الخصائص: صفاء مياه البحر وهدوء أمواجه، ورمال الساحل البيضاء الناعمة، وتنوع المظاهر الجيومرفولوجية الناتجة عن نحت الأمواج لصخور الشاطئ، والتنوع الحيوي للحياة النباتية والحيوانية في البر والبحر، ومناظره الخلابة الساحرة.
بالإضافة ما لساحل شرمة من مكانة روحية عجيبة فهو موقع إلهام للمفكرين والشعراء والمتصوفة لما يتمتع به من أسرار روحية ووجدانية تهيَّج الفكر وتريح النفس وتفجر القريحة. ففي بداية القرن التاسع الهجري كانت شرمة خلوة لنقيب العلويين بحضرموت الإمام العابد الفقيه السيد عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف، الذي عاش بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين، ويوجد له بها خلوة ومشهدا يقصد للزيارة والتنـزه، وقد أشار إليه العلامة علوي بن احمد الحداد في مخطوطته (مصباح الأنام وجلاء الظلام) . كما أن الشاعر (الدرويش)
المرحوم المعلم عوض أحمد حميدان كان يتخذها دائماً ملاذاً آمناً له للفرار إلى ذاته؛ حيث وصف الطبيعة في هذاالموقع موضحا مسببات اللجوء إليه دون غيره، قائلاً:
<<مناظر تسلي خاطري ونـفح الشجي العاطري
إليها سري مخشى الصعاب
سـرى الليل معكم باسري إلى بحر شرمة الأنس طاب
ثراها شفاء مـــن به علـــل بها يشفي كل من نزل
مـجرب ولا فيه ارتياب

سـرى الليل معكم باسري الى بحر شرمة الأنس طاب >>
كما إن انتشار الكهوف و المغارات (الجوّل) تعد أماكن مناسبة لهواة الرحلات والنزهات إذ يتوافدون عليها باستمرار وبصورة أكثر أيام العطل والإجازات كما إن شرمة في الوقت الحاضر لا تكاد تخلو في أي يوم من أيام الأسبوع من الرحلات القادمة من شتى مناطق المحافظة والجمهورية والتي تكثر في أيام العطل الرسمية ، كما يفدها بين الحين والآخر بعض السياح الأجانب من الخارج لممارسة السباحة، وهوايات
الغوص وصيد الأسماك.
(4)
أهمية التنوع الحيوي في المنطقة:

إن تنوع النظم البيئية في منطقة شرمة سواء كان ذلك في البحر أو في البر، أدى إلى تنوع صور الحياة الحيوانية والنباتية، والتي تعد متحفاً طبيعياً يحتاج إلى رعاية وصيانة للمحافظة عليها. وتكمن أهمية التنوع الحيوي لمنطقة شرمة من خلال أهمية كل نوع من أنواع الكائنات الحية والتي يمكن ان نوجزها في الآتي:

1. الأسماك والأحياء البحرية:

تشكِّل الأسماك بأنواعها المختلفة والأحياء
البحرية الأخرى النسبة الأكبر والوجه الأبرز في خريطة التنوع الحيوي، والتي تمثل المصدر الغذائي الرئيسي الذي يسد الجزء الأكبر من البروتين الحيواني للناس، كما إن جزءًا منه يصدر إلى الخارج ويشكل مصدراً مهماً للعملة الصعبة لليمن. إضافة إلى ذلك فإن مهنة الصيد تمارس من قبل غالبية الناس الذين يقطنون منطقة الدراسة، وبالتالي فهو المصدر الوحيد لكسب رزقهم.
رصدت الدراسات المختلفة في أنحاء المنطقة العديد من أنواع الشعب النباتية والحيوانية كالهائمات النباتية والحيوانية والطحالب والاسفنجيات والشعاب المرجانية ومتعددة الأشواك والرخويات والقشريات وشوكيات الجلد والأسماك والزواحف والطيور البحرية والثدييات البحرية.. الخ، مما يدل على غنى وتنوع الموارد البحرية لسواحل ميناء شرمة، ومعظم هذه الكائنات الحية لم تستغل .

2. الحشائش البحرية Sea grasses:
عبارة عن بيئات مهمة للكثير من الأحياء البحرية المختلفة، ومصدراً للإنتاجية الأولية في البيئة البحرية إضافة إلى أهميتها المتنامية في الأسواق العالمية كمادة غذائية وصناعية ودوائية.
وأهم أنواع هذه الحشائش: الحشائش البحرية الخضراء Chlorophycophyta والحشائش البحرية البنية Phaeophycophyta والحشائش البحرية الحمراء Rhodophyeophyta بالإضافة إلى الحدائق الزهرية ويمثله النوع Posidoniaocean

3. الطيور البحرية:
تعتبر دلائل ثقة على إنتاجية المياه السطحية للبحار والمحيطات، حيث إن أي مكان توجد فيه الطيور بكثافة عالية يعني أن المياه تعج بالحياة، إضافة إلى ما تشكله من نسبة مهمة في المصائد البحرية.
توجد عدة أنواع من الطيور البحرية في منطقة شرمة منها: طائر النورس، الكرماني، الضفيك، السومي، الراضخ، أبو جراب، الكسيلان، اللقلاق، الذي يظهر أحياناً ويختفي أحياناً، وهناك بعض الطيور غير المستقرة دائماً ما تكون مهاجرة؛ حيث تشكل منطقة شرمة ملتقى استراتيجي للطيور المهاجرة، على مدار العام.
4. الشعاب المرجانية:
و هي واحدة من أبهى و أعجب خلق الله تعالى، فهي عبارة عن هياكل ضخمة من الحجر الجيري ، و التي تشكل مأوى لأكثر من ربع الكائنات البحرية المعروفة ، و تشكل الشعاب المرجانية مصدراً لتوفير الغذاء والرزق لأعداد متزايدة من الناس من خلال صيد الكائنات البحرية التي تتواجد بها، ومن خلال السياحة البيئية المتنامية في جميع دول العالم، بالإضافة إلى أن الشعاب المرجانية مصدر للكثير من المستحضرات الطبية والعلاجية، وهي تشكل مصدات لحماية الشواطئ ضد التيارات البحرية، ومن العوامل المساعدة لظهور الجزر و الساتر الطبيعي؛ كما إنها تعد بيئة ملائمة لتواجد الشروخ الصخري ( الكركند )، لوبستر lobster والحبَّار.
5. السلاحف البحرية (وسبق أن تحدث عنه الباحث بالتفصيل في حلقة سابقة)
6. النباتات البرية:
نظراً لملوحة التربة والجفاف فإن كثافة الغطاء النباتي الطبيعي الذي ينمو في المنطقة قليلة جداً ويكثر في الجزء الشرقي من السهل الساحلي الجنوبي لا سيما عند أقدام السهل القاري المرتفع وتقل تدريجياً كلما اتجهنا غرباً حتى تكاد تختفي عند السهل الغربي، وهي من الأنواع التي تتحمل الملوحة والجفاف فمعظمها نباتات شوكية لتقليل عملية النتح أو حولية حيث تنمو مع موسم المطر إلى أن تثمر وتضع بذورها في التربة إلى أن يأتي موسم المطر القادم. وأهم هذه النباتات: إثل، الراء، حرمل، العشر، ضرعب، السرح، سمر، عشرق، الأراك، الراء.. وغيرها.

7. الحيوانات البرية:
ساعدت البيئة الطبيعية للمحمية كثيراً على تربية وتكاثر مثل هذه الحيوانات البرية، وإيوائها لعدة أسباب منها: تنوع التضاريس من جبال وسهول وشعاب، بالإضافة إلى ما يوجد بهذه الأحراش من مغارات وكهوف وصخور صارت أكناناُ وملاجئ آمنة لهذه الحيوانات مما جعلها بعيدة عن أيدي العابثين، كما أن لوجود الأحواض المائية دور حيوي ومهم وإن كانت أغلبها موسمية إلا أن منها ما لا ينضب ماؤها على مدار السنين ، ومن ذلك أيضاً وجود الأشجار والنباتات التي تتغذى عليها بعض الحيوانات حيث تخصب المراعي بالحشائش ووفر الأرض خاصة عقب هطول الأمطار ويتجدد اخضرار بعض الأشجار على مدى العام و تقلب الفصول ، و الوسيط المشترك الآخر هو دور المناخ المعتدل الدافئ . ومن أهم هذه الحيوانات: الظباء، الأرانب، الثعالب، الشقي، الذئاب، وغيرها، تتعرض هذه البيئة الحيوانية لتهديدات ومخاطر كثيرة تكاد تدفع هذه الحيوانات على النزوح الجماعي غير المعلن . (انتهى )
(7)
بقي أن أنوه أن الباحث طاهر ناصر المشطي اعتمد في بحثه على الكثير من المراجع، ودعمه بالصور والخرائط كما يفترض بأي بحث من هذا النوع ، أتقدم إليه بخالص الشكر والامتنان إذ كان بحثه عونا كبيرا لي في الكتابة عن شرمة وكشف لي عن جوانب لم أكن اعرفها ،،،مع خالص اعتذاري إذ لم اعتمد نفس تسلسله في موضوعي لكنه جدد حنيني لشرمة الذي لم يخفت يوما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى