ثقافة

عهد السلطان في عهدة باحمدان ..
الحلقة الأولى

حضرموت حُرّة/ بقلم: د. أحمد باحارثة

   كتاب (عهد السلطان صالح) هو طليعة المسيرة البحثية الحثيثة والجادة لصديقنا الباحث محمد سالم باحمدان، الذي عرفته منذ فترة مبكرة جاداً وطموحاً في أفكاره ومتابعاته للوصول إلى الحقيقة التاريخية، واستقصاء تفاصيل الصورة الكاملة لها، في ما يتناوله من أبحاث أو مقالات مستفيضة، وقد لقي كتابه هذا إقبالاً ورواجاً يستحقه، وساعده على ذلك ما لشخصية (السلطان صالح) من سحر خاص في الذاكرة الحضرمية، ولما لعهده من لوحة براقة رسمتها أحاديث المسنين ممن عاصروا تلك الفترة، بصورة فاقت ما خطه المؤرخون لواقعها، ولاسيما عند شعب يعتمد على السماع والنقل الشفاهي لأخبار ماضيه، أكثر من الاطلاع على الكتب وتصفحها، ومن ثم فقد لون الخيال تلك اللوحة بتلاوينها الساحرة، وهي تلاوين زادها عمقاً وغماقة فترة البؤس التي عاشها الناس في حاضرهم بعد ذهاب عهد السلاطين، وحلول عهد الرفاق، الذين ساهموا من حيث لا يريدون في تزيين تلك اللوحة لعهد أسلافهم لما فرضوه على تاريخهم من تكتم في التعريف به، فضلاً عن درسه، وبالتشويه العام له، ثم عجزهم عن أن يهبوا للناس عيشة هنية كريمة تنسيهم ماضيهم، فضلاً عن أن يترحموا عليه وعلى رموزه .
   لقد كانت هذه اللوحة البراقة هي التحدي الأول للباحث في تأريخه لواقع ذلك العهد، بحيث لا يسحره بريقها، ويشغله عن رؤية اللوحة كما هي في واقعها، بتفاصيلها، وجوانبها، وزواياها، أو بحيث يضفي بريق اللوحة وسحر شخصية السلطان صالح حماسة لتلك الفترة ولصاحبها، تبعده على حدود متفاوتة من واقعية العرض وحيادية الباحث المطلوب في ما يطرقه من موضوع، قد يكون قريباً أو بعيداً من نفسه أو هواه، أو هوى مجتمعه وطائفته .
   لقد استطاع الباحث حشد سيل من المعلومات عن تلك الفترة أو ذلك العهد، بكل جوانبه التي رسمها لنفسه، سياسية، واجتماعية، وثقافية، بصورة باهرة نجح فيها الباحث إلى حد بعيد، ودلت على مدى الجهد الذي بذله في جمعها واستقصائها، من مصادر متنوعة، قرائية وسماعية، وأظهر الباحث أثناء ذلك حماساً لم يستطع إخفاءه لشخص السلطان وعهده، تمثل ذلك في ما أضفاه من نعوت على السلطان وفترة حكمه (1936 -1956)، فهذه الفترة عنده “تعتبر أخصب فترة تاريخية على الإطلاق، فهي الانطلاقة الحقيقية للنهضة الحضرمية الحديثة”، وحينما استعرض الباحث أقوال المؤرخين لتلك الفترة، وصاحبها ذكر شهادات المؤرخين البكري وباوزير والشاطري، ثم ذكر أن البكري كان “أكثرهم حماسة وانفعالاً”، والحقيقة أن هذا الوصف ينطبق على المؤرخ باوزير لا على البكري؛ إذ عد باوزير عهد السلطان صالح بأنه “كان نهاية تاريخ، وبداية تاريخ، ونقطة تحول وانقلاب، وثورة على العقليات القديمة للهيئات الحاكمة، ونصرًا حاسمًا لشعور الشعب الحضرمي بآدميته وكرامته”، وهل يستطيع أحد، ولو كان من أقرب المقربين للسلطان وعائلته، أن يأتي بأقوى من هذا القول، وتلك الوصوف التي شملت كل ألفاظ الحماس، لم يوفر منها شيئاً، (تحول، انقلاب، ثورة، نصر)، وهي نفس العبارة التي رددها بعد ذلك الباحث بصورة حرفية، بعد أن وصفها بـ(القول الثابت) .
   لكن الباحث كان أكثر حماسة من المؤرخ باوزير؛ إذ إن هذا قد تحفظ واستثنى حين أشار إلى “التدخل الأجنبي” و”بعض الهنات التي تصاحب عادة الحركات الإصلاحية، التي لا يشرف عليها الشعب”، فباوزير هنا يلمح إلى أشنأ شرخين أثّرا في عهد صالح، وهما التدخل الأجنبي، والاستبداد، وإن كانت عبارته فيها تلطف اقتضاه زمن تأليف الكتاب الذي وردت فيه عبارته، إلا أن الباحث قد غض نظره عن تلك الإشارتين، أو شق على بصره رؤيتهما في غمرة حماسه للسلطان وعهده، لا بل إن ما عده باوزير هنات، وتحفظ عليه في عبارته السابقة، نرى الباحث يعده عملاً من أعمال السلطان الإصلاحية حيث قال: “كان أول أعمال السلطان صالح السياسية والإصلاحية معاً هو التوقيع على معاهدة الاستشارة مع الحكومة البريطانية”، وهو قول يذكرنا باعتبار الاحتلال الفرنسي لمصر مدخلاً للنهضة الحديثة في مصر، وفي العالم العربي من ورائها، ومع ذلك نجد الباحث يناقض نفسه سريعاً حين رأى أن تلك المعاهدة كانت “المدخل الحقيقي، أو المظلة، التي تحت غطائها تدخل الإنجليز في شئون الحضارمة وسلاطينهم”، وهنا يتركنا الباحث في حيرة، أو في (حيص بيص) بين مدلول أول عبارته وآخرها، فهل المعاهدة عملاً إصلاحياً قام به صالح، أم أمر تم قهره عليه وشكلت خطراً على مستقبل سلطنته .
   إن الباحث لم يقف هنا الموقف المطلوب منه كباحث ليتعمق الحدث ويحلله، ويحكم عليه أو على أطرافه بصورة محايدة، مع أن هذا الحدث يمثل حجر الزاوية في ذلك العهد، وسلوك حاكمه، ونرى الباحث هنا يقف موقفًا مزدوجاً من هذه المعاهدة؛ فهي من جهة السلطان خطوة إيجابية إصلاحية، أي أنها مقصودة من قبله، يترتب عليها سائر خطواته الإصلاحية المرجوة، أما من جهة الإنجليز فهي خطوة سلبية استعمارية قصدوا منها “محاصرة حركة النمو الذاتي لسكان المناطق المتاخمة لعدن، ومنها حضرموت”، ثم اكتفى بحل هذه المعادلة المتباينة العناصر حين قال: “كان السلطان فاعلاً ومؤثراً في كثير من الأعمال، فوقعت في عهده سلسلة من الإصلاحات والتغيرات العسكرية والمدنية، سواء أكان بمبادرة شخصية منه، أم بالاتفاق مع بريطانيا وإن كانت هناك ثمة (كذا) أعمال تمت باسم السلطان الهدف منها ضمان المصالح البريطانية في المنطقة”، إن الباحث حريص على عدم مس السلطان صالح بأي كلمة، أو لمحة تمس قداسته في الذاكرة والضمير الجمعي الذي كان خاضعاً تحت تأثيره، ويظهر هذا بوضوح أيضاً في الكلمة التي سجل بها الموقف من (حادثة القصر)، التي أوردها مندداً بالحادث المؤلم، والكارثة المأساوية، فلما جاء ذكر السلطان نجد الباحث يخفض صوته وهو يقول: “المتأمل لصدى تلك الفاجعة يلاحظ أنها لم تخل من عتاب على السلطان بدرجة رئيسة” فانظر إلى أدب العبارة الخجولة، ووصف (العتاب) لمسئولية السلطان عن الحادث، وهو عتاب من أصداء الآخرين، أما رأي الباحث وموقفه فغائب تماماً، ربما تعمد تغييبه دفعاً للحرج عن نفسه .
   ورأيي فيما سبق أن السلطان صالح إذا كان قد بنى لنا صرحاً وقصراً منيفاً في عهده، إلا أنه زرع في أساساته قنبلة موقوتة ما لبثت أن انفجرت في صرحه وفي كل شيء بعد رحيله بعشر سنوات، وهذه هي عاقبة كل من يبني بناءه على شفا جرف هار، لقد غدا عهد السلطان كأضغاث أحلام، وكأساطير تتلى، لكن ليس له في واقع الحاضر أي أثر يذكر، إذا استثنينا المكتبة السلطانية، ولعل سبب ذلك أنه وضع بيضه كله في سلة واحدة، هي السلة الإنجليزية، التي اهترأت مع موجات المد التحرري والقومي في العالم العربي آنذاك، ولم يستطع لا هو ولا أسلافه مثل صنيع أمراء الكويت مثلاً، وهم الذين كانوا كذلك تحت الحماية البريطانية إلا أنهم مع ذلك مدوا جسوراً مع محيطهم الإسلامي ممثلاً بالعثمانيين، والعربي ممثلاً بالجامعة العربية، فصمدوا بإمارتهم الصغيرة أمام رياح المتغيرات، وجعلوا منها دولة عصرية رغم حراجة موقعها الجغرافي وضحالة عمقها التاريخي، كما أن سلطنته لم تعوض بعده بشخصية فذة تنجو بها من إعصار ذلك المد، مثلما حصل مع السلطنة العمانية بشخصية السلطان قابوس، الذي انتشل سلطنة أجداده من أوحال ذلك الإعصار، أما سلطنة القعيطيين التي كانت كبرى سلطنات الجنوب فقد خلفها بعد صالح ذرية ضعاف كالسلطان عوض المريض عضوياً ونفسياً، وكان السلطان صالح نفسه مسئولاً عن ولايته؛ ليخلفه من بعده صبي غر مراهق، فكانت بذلك النهاية الحتمية لدولة صالح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى