الإحتساب طريقنا نحو الخير المستدام
حضرموت حُرّة/ بقلم: أحمد باصهي
ظَلّتْ فكرةُ إستمرارية الزخْم والدافعية لفعل الخير واستدامته الشغلَ الشاغلَ لعلماء التربية والسلوك وعموم السائرين إلى الله ، ذلك أن همّة السالك تتأرجح بين صعود وهبوط وإقدام وإحجام ، ومن هنا جاء الحثُّ على السعي والمثابرة في عمل الصالحات دون كلل أو ملل ولو بالشئ اليسير عوضاً عن التوقف والعدمية والإنقطاع كما ؛ جاء في الحديث الصحيح( أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ) .
فكثيرٌ من المبادرات الطوعية فرديةً كانت أم جماعية والأعمال الإيجابية وُئدتْ في بداياتها وانطفأت شعلةُ انطلاقتها الأولى ؛ لتعويل أصحابها وروادها على ثناء الأطراف المستفيدة وشكرهم بل ومديحهم وربّما انتظار المكاسب المادية أجر ماصنعوا من خير .
إنّ رفعنا لسقف توقعات الإشادة والجزاء لهذه الأعمال أو تلك المبادرات ينعكس سلبا علينا بالشعور بالإحباط ، بينما لو أننا قمنا لله مثنى وفرادى وتفكّرنا فيما ينتظرنا من جزاء أخروي لوجدنا أنه خيرٌ وأبقى من كل إشادات أهل الأرض ومديحهم . هذا هو احتسابنا الأجر من الله لا سواه ، أجرٌ إذا وضعناه نُصْبَ أعيينا بِحُسبانه الثمرة المرتجاة والجائزة المبتغاة من كل حركة نتحركها في مجال الخير وصناعة المعروف وترك الأثر الطيب لكل أعمالنا التي نتحمسُ لفعلها ؛ لآتت أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها .
ربّما تتزاحمُ المعاني إلى حدّ الإختلاط لدى البعض منّا بين مفهومَي الإخلاص ( لوجه الله ) والإحتساب ( لانريد منكم جزاءً ولا شكورا)
وهو المعنى الذي أكدت عليه الأحاديث النبوية الشريفة في أكثر من موضع حثّاً من نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم على أن تكون أعمالنا كلها لله حتى تتصل حلقاتها وصولاً إلى موازين الجزاء على الأعمال ؛ فمن وَجدَ خيراً فليحمدِ الله ومن وَجدَ شرّاً فلا يلومنَّ إلا نفسَه ، ذلك أن إتصال تلك الحلقات وديمومة حركتها ؛ يأتي من كَونِ حركتها انقدحتْ ابتداءً لله ” فما كان لله دام واتصل وماكان لغير الله انقطع وانفصل” كما قرر علماؤنا الأفاضل عليهم رحمة الله.
ولعلّهُ من نافلة القول أن نعتبر الإحتساب مصدراً من مصادر السعادة في حياتنا ذلك أنّ كثيراً من العلاقات الإجتماعية العائلية منها أو حتى على مستوى الأُخوّة والصداقة يصيبها الوهنُ والفتور لِما تَحيقُ بها من خيبات الأمل جرّاء المَنِّ أو انتظار الشكر من أحد طرفيها جزاءً لما قدّمه للطرف المقابل بينما لو أنه احتسب مابذله وأسداه من جميل ومعروف عند الله لكان له بذلك الأجر الوفير من ربٍّ جوادٍ كريم فقد.جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( إذا أنفق الرجلُ على أهله نفقةً وهو يحتسبُها كانت له صدقة).
إنه شعورٌ بالإرتياح النفسي لاشك أنه يجلب السعادة والبِشر كَونَك تبذلُ دونَ التفاتٍ لشكرٍ أو تطلّعٍ لثناء وهو مايحفزك للتفنن والإبداع ناهيك عن الإستمرار في فعل الخير ورسم ابتسامات الرضا على وجوه من يَلونَك في محيطك الإجتماعي القريب والأقرب منه .
ولا غروَ ونحنُ في شهر رمضان المبارك حيث الفيوضات والنفحات الربانية تتدفق علينا مع كل غدوة وروحة والحالة الإيمانية التي تشهدها أمزجتنا ونفسياتنا في تصاعد مستمر ولله الحمد والمنة ، أن تكون الأحاديث النبوية الشريفة مدارها حول الإحتساب في ثلاثة مواضعَ مفصلية من دائرة الأعمال في شهر رمضان حيث جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر) .
(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه).
(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه).
وماذلك إلّا لأهمية الإحتساب والتعويلِ عليه وعلى الجزاء الأخروي الذي نحن مطالبون أن نضبط بوصلة اتجاهاتنا في الحياة على أساسه لتستقيم خُطانا ونثبتُ في وقت بلغتْ فيه الهزاتُ مؤشراتٍ عاليةً جداً في مقياس الفتن أعاذنا الله والمسلمين منها ومن شرورها .
فليس مصادفةً من رسول الهُدى ومصباح الدُّجى صلواتُ ربي وسلامه عليه أنْ تَرِدَ ثلاثةُ أحاديثَ صحيحةً مدارُ الأمر فيها هو الإيمانُ والإحتساب في أعمال رمضان وهو الشهر الذي لا يرضى فيه ربُّنا جلّ جلاله إلا بالكمال كما قال تعالى ( ولتكملوا العدة ) يريد الله منا أن نكمل العدة ، وإكمالُ العدة يحصلُ بقضاء الأيام التي أفطرها مَنْ وجبَ عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمةً تجبُ المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلتْ حكمةُ التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلتْ رحمة التخفيف . وهو كمالٌ ونشدانٌ للكمال في الأداء لأعمال القلوب والجوارح على السواء كما جاء في الحديث الصحيح :
( إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وهذا مايؤكدُ لنا أن شهر رمضان ليس شهرا عاديّاً في حساب الأجندات والزمن بل هو محطة تقييم ومحاسبة وتزوّد وضبط لإعدادات الأنفس والقلوب والجوارح وفقاً لمُراد الله منّا ثم الانطلاق بعزمٍ وجسارة في شِعابِ الحياة ووديانها لاقتلاع الشرّ وزراعة الخير بِطاقةٍ جبّارة مصدرُها الإيمانُ بالله واليوم الآخر ومُحفّزُها الإحتساب .